المرسوم الدستوري: بين الضرورة الدستورية وحماية النظام السياسي الفلسطيني
الكاتب: د. ربحي دولة
الكاتب: د. ربحي دولة
في لحظة سياسية دقيقة يعيشها الواقع الفلسطيني، وفي ظل انسداد الأفق التشريعي وتعطل المؤسسات المنتخبة، جاء المرسوم الدستوري الأخير الذي ينظم آلية ملىء الفراغ في حال شغور منصب الرئيس ليشكل خطوة استباقية تحمل في طياتها بعداً وطنياً ودستورياً بالغ الأهمية، فهو يأتي من حاجة حقيقية لتحصين النظام السياسي وضمان استمرارية مؤسساته في مواجهة أي طارئ قد يربك المشهد أو يهدد توازن الشرعية.
لقد أدركت القيادة الفلسطينية أن وضوح النصوص هو الضمان الأول للاستقرار، وأن ترك الأمور في منطقة رمادية قد يفتح الباب أمام التأويلات والانقسامات، لذلك جاء المرسوم في توقيت بالغ الحساسية ليضع أسساً واضحة لانتقال السلطة ويحافظ على سير العمل المؤسسي دون تعطيل أو فراغ.
ويأتي هذا القرار في إطار رؤية الرئيس محمود عباس، الذي يُعد من أكثر القادة الفلسطينيين والعرب تمرّساً في العمل الدبلوماسي والمؤسساتي، لما يمتلكه من بعد نظر وخبرة سياسية طويلة تمكّنه من قراءة الواقع بدقة واستشراف ما هو قادم، فاختياره لهذا التوقيت بالذات لم يكن صدفة، بل استجابة واعية لظروف دقيقة تمرّ بها الساحة الفلسطينية التي تعاني من حالة عدم استقرار متزايدة نتيجة ممارسات الاحتلال ومحاولاته المستمرة لإرباك المشهد الوطني والمؤسساتي. لقد أراد الرئيس بهذا المرسوم أن يوجّه رسالة واضحة مفادها أن القيادة الفلسطينية قادرة على إدارة شؤونها بالقانون والنظام، وأنها لن تسمح بأن يفرض الاحتلال فراغاً سياسياً أو إدارياً في بنية الدولة الفلسطينية.
وإذا كان القرار الأول قد أحال هذا الملف إلى المجلس الوطني الفلسطيني، فإن التعديل الأخير أعاد الكرة إلى ملعب المجلس التشريعي باعتباره الجهة الأصلية المنصوص عليها في القانون الأساسي الفلسطيني، إلا أن المرسوم الجديد تعامل مع الواقع السياسي كما هو، لا كما يُفترض أن يكون، فغياب المجلس التشريعي وتعطل دوره جعل من الضروري أن يُوجد النظام السياسي بديلاً دستورياً يضمن الاستمرارية، فكان النص على أن يتولى نائب الرئيس مهام الرئاسة مؤقتاً حتى إجراء الانتخابات العامة، وهو ما يُعد حلاً واقعياً ينسجم مع روح القانون ويحافظ على الشرعية دون المساس بجوهرها.
إن هذا الإجراء لا يعني تجاوز المؤسسات أو استحداث مسار موازٍ، بل هو تحصين للنظام ودرع للاستقرار في حال الشغور، فالدولة لا تعرف الفراغ، والشعب الذي يناضل للحياة لا يمكن أن يُترك دون قيادة أو مرجعية.
ومن هنا يبرز الدور الوطني لنائب الرئيس الذي يمثّل صمام أمان لاستمرار القيادة في حال غياب الرئيس، وفي هذا السياق يبرز اسم حسين الشيخ بوصفه نائباً للرئيس وكجزء من منظومة القيادة السياسية، بما يتيح له تولي المهام مؤقتاً استناداً إلى المرسوم وإلى مقتضيات المسؤولية الوطنية، الأمر الذي يضمن بقاء القرار الفلسطيني موحداً ومستقلاً بعيداً عن محاولات الإرباك والتفكيك. هذه الآلية لا تلغي دور التشريعي، بل تبقيه حاضراً في النص ومؤجلاً في التطبيق حتى تعود الحياة البرلمانية من جديد عبر الانتخابات العامة، وحينها يُعاد العمل الكامل بالقانون الأساسي بحيث يتولى رئيس المجلس التشريعي مهام الرئاسة مؤقتاً حتى انتخاب رئيس جديد.
إن جوهر المرسوم الدستوري لا يقف عند حد تنظيم انتقال السلطة، بل يتجاوز ذلك إلى ترسيخ فكرة الدولة القائمة على القانون، الدولة التي تضع لكل طارئ جواباً دستورياً ولكل احتمال مخرجاً شرعياً، وهذا ما يمنح النظام السياسي الفلسطيني قدراً من المرونة والاستقرار في مواجهة المتغيرات. وفي واقع تتشابك فيه الأزمات وتتعدد فيه مراكز الضغط، يبدو هذا المرسوم بمثابة رسالة طمأنينة إلى الشعب وإلى مؤسسات الدولة بأن النظام لن يتعطل وأن الشرعية لن تُترك رهينة للفراغ أو الانقسام.
إن المرسوم في جوهره ليس قراراً إجرائياً بل خطوة في مسار بناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات التي تعرف كيف تُدير شؤونها في غياب أي طرف دون أن تهتز قواعدها، وهو تأكيد على أن فلسطين قادرة على تجديد نفسها بنفسها، عبر القانون والوعي والمسؤولية الوطنية. وإذا كانت الانتخابات العامة ستعيد تفعيل الحياة التشريعية في القريب، فإن تطبيق القانون الأساسي سيكون هو المرجع، أما حتى ذلك الحين، فإن هذا المرسوم يشكّل صمام أمان، يضمن الاستمرارية ويمنع الانقطاع، ويُبقي على الدولة في حالة يقظة واستعداد لكل احتمال.
وهكذا، فإن المرسوم الدستوري الجديد لا يُقرأ فقط في بعده القانوني، بل في أبعاده الوطنية والسياسية، كإعلان إرادة لحماية النظام من الفراغ، وتحصين المؤسسات من الارتباك، وتأكيد أن القيادة الفلسطينية تمارس واجبها في تأمين الاستقرار وتثبيت الشرعية. إنه خطوة في طريق طويل من النضال القانوني والسياسي، نحو بناء نظام وطني متماسك، قادر على الصمود في وجه التحديات، ومؤمن بأن الشرعية لا تُورّث ولكنها تُصان وتُحفظ بالقانون، وبالإرادة التي لا تعرف الفراغ.





