تقبّل الرأي والرأي الآخر في زمن التيه من الانقسام والذباب الإلكتروني إلى ثقافة الحوار وبناء الوعي الوطني
د. سليمان عيسى جرادات رئيس الهيئة الفلسطينية لحملة الدكتوراه في الوظيفة العمومية

تقبّل الرأي والرأي الآخر في زمن التيه من الانقسام والذباب الإلكتروني إلى ثقافة الحوار وبناء الوعي الوطني
د. سليمان عيسى جرادات
رئيس الهيئة الفلسطينية لحملة الدكتوراه في الوظيفة العمومية
في زمنٍ تتقاطع فيه الضغوط السياسية بالانقسامات الداخلية، وتختلط الحقيقة بالتحريض، يعيش بعض الفلسطينيين حالة تيه فكري ووجداني غير مسبوقة، فبين مطرقة الاحتلال وعدوانه وانتهاكاته وسندان الانقسام، تآكلت قيم الحوار، وضعفت ثقافة تقبّل الرأي والرأي الآخر، حتى غدت الكلمة سيفا، والرأي المختلف تهمة، والنقد جريمة لا تغتفر.
تعيش القضية الفلسطينية مرحلة معقدة تتشابك فيها التحديات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، في ظل انقسام داخلي تغذيه حملات تضليل رقمية تستهدف وحدة الشعب الفلسطيني. ومع تنامي دور الإعلام الرقمي، برزت الحاجة الملحة إلى توظيف وسائل التواصل الاجتماعي كمنابر لتعزيز الوعي الوطني وترسيخ الانتماء، بدلاً من تركها ساحةً للمهزومين والمأزومين والتأهين بنهج متدني لبث الشائعات والفتن والأكاذيب ، من هنا، تبرز أهمية وضع آليات وطنية وقانونية لحماية الخطاب العام من الذباب الإلكتروني الداخلي والخارجي، وتفعيل التربية الإعلامية في المدارس والجامعات لترسيخ التفكير النقدي لدى مكونات المجتمع الفلسطيني وخاصة الشباب ، كما يجب توجيه الإعلام بمختلف توجهاته الحزبية والفردية الى خطاب وحدوي يعزز الثقة بالقيادة الفلسطينية ويعيد الاعتبار للهوية الجامعة لمنظمة التحرير الفلسطينية كبيت كبير يجمع ابناءه بعيداً عن التجاذبات الفئوية والفصائلية.
لقد عرف الشعب الفلسطيني عبر تاريخه الطويل وحدة التنوع الفكري والسياسي، إذ جمعت القضية الفلسطينية بين اليساري والقومي والإسلامي، بين الوطني والمستقل، في إطار جامع واحد هو التحرر والكرامة، غير أن الانقسام السياسي الذي طال أمده، وما رافقه من استقطاب إعلامي حاد، أفرزا خطابا ضيقا يختزل الوطنية في فصيل، والموقف في ولاء، والرأي في انتماء ، وفي ظل هذا المناخ المأزوم ، وجدت جيوش الذباب الإلكتروني – الداخلية منها والخارجية – ساحةً خصبة لبث سمومها ، والتشكيك في النوايا، وتشويه الرموز التاريخية الوطنية والنضالية ، وتمزيق النسيج الاجتماعي وتهديد السلم الأهلي والامن المجتمعي الفلسطيني.
هذه الجيوش الافتراضية لا تعمل عبثا ، بل تخدم مشاريع تهدف إلى إضعاف الوعي الجمعي، وصرف الأنظار عن جوهر الصراع مع الاحتلال، وتحويل النقاش الوطني إلى معارك جانبية قائمة على مصطلحات دخيله كالتخوين والتجريح بدلًا من التفكير والتصويب، وهنا تتجلى الأزمة الحقيقية أزمة وعي قبل أن تكون أزمة سياسة.
ومع كل ذلك، لا يمكن تجاهل الوجه الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي، فهي أداة فاعلة في نشر الوعي، وإتاحة النقاش العام، وبناء جسرٍ المحبة والمودة وتقريب وجهات النظر بين الأجيال الفلسطينية داخل الوطن وخارجه، فهذه المنصات، إن أُحسن استخدامها، يمكن أن تكون مساحة حرة للحوار الوطني، ومنبرا لترسيخ المفاهيم الوطنية، وتعزيز روح الانتماء، وتحصين المجتمع من ثقافة الكراهية والفتن .
لكن الاستخدام الرشيد لتلك الوسائل لا يتحقق إلا في ظل تطبيق قوانين واضحة تجرم خطاب الكراهية والتحريض والتشهير الإلكتروني، وتحاسب من يستخدم الكلمة لتدمير السلم الأهلي والامن المجتمعي أو المساس بكرامة الآخرين، فحرية الرأي لا تعني الفوضى، ولا يجوز أن تتحول المنصات الإعلامية إلى أدوات لتصفية الحسابات، فتطبيق القانون ليس خصما للحرية، بل حارسا لها، يحفظ جوهرها الإنساني الادبي والتربوي والأخلاقي.
لا شك بان الانقسام السياسي قد عمق الشرخ لدى النفوس الضعيفة ، فإن الانقسام الفكري لا يقل خطورة، لأنه يمس جوهر الوعي الوطني، لذا فإن الأولوية الوطنية اليوم تتمثل في بناء ثقافة مستدامة لتقبل الرأي والرأي الآخر، تقوم على التربية الفكرية والنقدية منذ المراحل التعليمية الأولى، وتشجع على الاختلاف المسؤول، لا على الإقصاء.
كما أن من الضروري وضع آليات عملية لإنهاء الانقسام الفكري والسياسي، وقطع الطريق أمام الذباب الإلكتروني الذي يتغذى على الخلافات. وتشمل هذه الآليات إطلاق حوار وطني شامل يستند إلى احترام التعددية، وإشراك المثقفين والأكاديميين والإعلاميين في صياغة خطاب وطني موحّد يعيد الثقة بين أبناء الشعب، ويؤسس لوحدة الوعي قبل وحدة السياسة.
إن الوعي الفلسطيني لا يمكن أن ينهض ما دام الآخر يقصى، وما دامت الكلمة الحرة تُحارب فالوطن الذي يتسع للشهداء والأسرى والجرحى والمبعدين، لا بد أن يتسع أيضًا للرأي المختلف، لأن الحرية التي ننشدها من الاحتلال، لا تكتمل إلا بتحررنا من الاستبداد الفكري وضيق الأفق الداخلي الذي تتبعه بعض الفئات ، لذا فإن مواجهة الانقسام الفكري تتطلب مشروعاً وطنياً يقوم على الحوار والتكامل بين الأجيال والمؤسسات، وتوظيف المنصات الرقمية كجسور للتواصل الإيجابي لا كخنادق للفرقة ، فالوحدة الفكرية والإعلامية هي السلاح الأقوى لمواجهة التحديات والمؤامرات التي تحاك ضد فلسطين وشعبها، ولإبقاء الراية الوطنية موحدة في وجه العواصف .
أخيرا لقد آن الأوان للاحتكام للديمقراطية لإنهاء كافة الملفات الداخلية وان ننتقل من زمن التيه إلى زمن الوعي، ومن ثقافة التخوين إلى ثقافة النقد البناء ، ومن الذباب الإلكتروني المتمرس خلف الكيبورد إلى الحوار الحقيقي ، فحين يصبح الاختلاف مصدر قوة، ويغدو الحوار سلوكا لا شعارًا، حينها فقط يمكن أن نعيد بناء وعينا الوطني، ونستعيد جوهر قضيتنا التي توحدنا جميعا تحت قانون ونظام وسلطة وقيادة وسلاح وعلم وحكومة واحدة .