اعتقال الحامل والولادة خلف القضبان: انتهاك مضاعف لحقوق المرأة والإنسان

بقلم: د. منى احمد ابو حمدية اكاديمية وباحثة

سبتمبر 26, 2025 - 11:27
اعتقال الحامل والولادة خلف القضبان: انتهاك مضاعف لحقوق المرأة والإنسان

اعتقال الحامل والولادة خلف القضبان: انتهاك مضاعف لحقوق المرأة والإنسان

بقلم: د. منى احمد ابو حمدية

اكاديمية وباحثة

 

مقدمة

تشكل تجربة الاعتقال في السجون الاحتلالية واحدة من أقسى أشكال العنف الممنهج ضد النساء الفلسطينيات، لاسيما حين يتعلق الأمر باعتقال المرأة وهي حامل، في مرحلة حساسة تحتاج فيها إلى رعاية صحية متواصلة وبيئة آمنة خالية من الضغوط الجسدية والنفسية. اعتقال الحوامل ليس مجرد تقييد للحرية، بل هو مصادرة لحق الأمومة والإنسانية في لحظة تتجسد فيها أرقى صور الحياة، لتتحول الولادة خلف القضبان إلى رمز للمعاناة والانتهاك المزدوج.

رحمٌ مقيد بين الجدران: معاناة المرأة الحامل في الأسر

ليست معاناة المرأة الحامل في الأسر مجرد فصل عابر في رواية القهر الفلسطيني، بل هي ملحمة وجعٍ مكتومة، تتنفس بين جدران صمّاء وتستصرخ ضمائر غفت على أنينها. أن تُحرم المرأة من فضاء الحرية وهي تحمل في أحشائها بذرة الحياة، يعني أن يتحول الحمل من وعد بالفرح إلى قيد مضاعف، ومن رحلة نحو الولادة إلى مأساة تُكتب بالحديد والدمع.

 

في تلك اللحظات، تصبح كل حركة من جسدها مثقلة بالوجع: مشيتها البطيئة تتحول إلى صراع مع القيود، أنفاسها المتقطعة تُسابق ضيق الزنزانة، ونبض جنينها يرتجف مع كل صرخة سجان أو صرير مفتاح. الجسد الذي وُهب ليكون مهدًا للحياة، يصبح ساحة مواجهة يومية بين الطمأنينة المفقودة والخوف الذي ينهش الأعصاب.

أما الليل، فهو امتحان أقسى من النهار؛ إذ تتكاثر الهواجس في عتمة الزنزانة، ويغدو الجدار الصامت مرآة لقلقها. كل ارتعاشة في أحشائها تُقرأ كإشارة خطر، وكل وجع صغير يتضخم في خيالها ليصير احتمال فقدان. ومع غياب الرعاية الطبية الحقيقية، تصبح الأمومة نفسها مهددة، ويغدو الحمل سيفًا مسلطًا بدل أن يكون بشرى بالميلاد.

المرأة الحامل في الأسر لا تُعذّب وحدها، بل يُعذّب معها جنينها؛ يشاركها القيد دون أن يعرف للعالم طريقًا، ويستمع إلى دقات قلبها المرتجفة كسيمفونية قلق متواصل. وكأن السجن يمدّ يده الغليظة إلى أعمق أسرار الطبيعة، إلى لحظة الخلق ذاتها، ليشوّهها بالعزلة والخوف.

ومع ذلك، فإن ما يثير الدهشة والرهبة معًا هو قدرة هذه المرأة على الاحتمال. فهي، رغم كل القسوة، تحمل في أحشائها شمسًا صغيرة تقاوم العتمة، وتُصرّ أن تمنح للحياة فرصة الميلاد حتى من قلب القبر الإسمنتي. إنّها تُعيد تعريف الأمومة كفعل مقاومة، وتجعل من كل نبضة جنين خلف القضبان صرخة تتحدى الجدران وتكسر صمت العالم.



ملحمة وجعٍ مكتومة: الطقوس القاسية داخل السجن

ليست الأسيرة الحامل في السجن مجرد رقم يضاف إلى قائمة طويلة من الانتهاكات، بل هي جسد مثقل بآلام مزدوجة؛ آلام القيود وآلام الحمل. تدخل الزنزانة وكأنها تدخل رحمًا مظلمًا معكوسًا، لا يهب الحياة، بل يضغط على أنفاسها ويزرع في خلاياها الخوف. في تلك المساحة الضيقة، حيث الجدران عارية إلا من رطوبة الصمت، تُجبر المرأة على أن تحيا بطقوس لا تشبه إلا العقاب الجماعي.

تصبح وجبات الطعام الباردة، التي لا تحمل من الغذاء إلا اسمه، سكينًا خفيًا ينغرز في جسدها وجنينها معًا. تتقلب ليلًا على فراشٍ رقيق، لا يحتمل وزن التعب ولا احتضان بطن يتسع بحياةٍ جديدة، بينما برودة الجدران تتسلل إلى عظامها كأصابع موتى. وحتى النوم يتحول إلى معركة، إذ تقطع صرخات السجان وقع أحلامها، لتعود إلى يقظة معلّقة بين اليأس والرجاء.

أما في أوقات التفتيش، فإن الجسد الحامل لا يُرى كجسد ضعيف يحتاج للرحمة، بل يُعامل ككيس يُفتش بغلظة، وكأن في أحشائه أسرارًا عسكرية. وتزداد المأساة حين تحين لحظة الولادة: تدخل الأم إلى غرفة باردة، مكبلة اليدين أو الساقين، لتلد بين العيون المتربصة لا بين الأذرع الحانية، وتسمع صراخ مولودها الأول يتردد في فراغٍ معتم، بدل أن يستقبل الحياة في دفء صدرها وحنان عائلتها.

إنها طقوس قهر لا تشبه شيئًا في هذا العالم؛ فكل حركة محسوبة، وكل نفس مراقب، وكل أنين موثق في ذاكرة الألم. السجن هنا لا يكتفي بسلب الحرية، بل يحاول أن يقتحم أعمق أسرار الحياة: الولادة نفسها، ليحولها إلى مشهد مناقض للمعجزة، إذ يولد الطفل محاطًا بالقيود بدل الأغاني، وتغمره رائحة الحديد بدل رائحة الأمومة.

الأبعاد الإنسانية والقانونية

وفقًا للاتفاقيات والمواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، فإن اعتقال الحوامل ومعاملتهن بهذه الصورة يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. ومع ذلك، تستمر الانتهاكات بشكل منهجي، في تحدٍّ صارخ للقيم الإنسانية والشرعية الدولية. إن حرمان المرأة الحامل من حقها في الرعاية الصحية والولادة الآمنة هو جريمة مزدوجة، تطال الأم والطفل معًا، وتحوّل لحظة الميلاد إلى جرح مفتوح على جسد الأمة بأكملها.

مناشدة للمجتمع الدولي

أمام هذه الانتهاكات المستمرة، تبرز الحاجة الماسّة إلى موقف حازم من المجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية والإنسانية. فالمطلوب ليس مجرد بيانات إدانة، بل تحرك فعلي يضمن:

        1.     الضغط للإفراج عن الأسيرات الحوامل بشكل فوري.

        2.     تأمين الرعاية الصحية اللازمة لهن خلال فترة الاعتقال وما بعدها.

        3.     محاسبة الاحتلال على انتهاكاته المتكررة بحق النساء والأطفال.

 

 

 

 

خاتمة

في زنازين الاحتلال، حيث يغيب النهار وتذوب الساعات في بعضها، هناك عالم آخر مطلي باللون الأزرق المطبق على الأنفاس؛ أزرق الجدران الباردة، أزرق الأبواب الثقيلة، أزرق العتمة التي تبتلع كل بارقة أمل. في هذا العالم، يُختزل الإنسان إلى ظلّ، والمرأة إلى جسد مقيد، والأمومة إلى جريمة تحتاج مراقبة.

إن ما يحدث خلف تلك الأبواب ليس مجرد انتهاك عابر، بل هو تجريف للكرامة الإنسانية من جذورها. أن تولد الحياة في قلب الموت، أن يصرخ مولود جديد في زنزانة لا تعرف إلا صدى القيود، هو وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء.

ولذلك، فإن السكوت لم يعد ممكنًا. على الضمير العالمي أن يلتفت إلى تلك اللحظات التي تُسرق فيها الأمومة وتُغتال الإنسانية. على المؤسسات الحقوقية والإنسانية أن تدرك أن كل دقيقة في ذلك العالم الأزرق هي نزيف آخر في الذاكرة الفلسطينية.

إن ولادة طفل خلف القضبان ليست مجرد حدث عابر، بل هي جرح مفتوح في تاريخ العدالة الإنسانية، جرح يصرخ بأن الحرية ليست مطلبًا، بل حقًّا فطريًا، وأن الأمهات اللواتي يلدن في السجون إنما يلدن شهادات حيّة على أن الحرية قد تُسجن، لكنها لا تُقتل.