العقاب الجماعي: جريمة حرب

د. دلال صائب عريقات
يُعدّ العقاب الجماعي من أبشع الممارسات التي يجرّمها القانون الدولي الإنساني، ورغم وضوح النصوص التي تحرّمه بشكل قاطع، ما يزال الشعب الفلسطيني يواجهه يومياً تحت الاحتلال الإسرائيلي. إن هذا النهج الذي يتجاوز المسؤولية الفردية ليطال جماعات كاملة من المدنيين يكشف حجم الانتهاك الممنهج للقانون الدولي، ويعكس سياسة قائمة على الردع والإخضاع بدلاً من العدالة.
اتفاقيات جنيف، خاصة المادة 33 من الاتفاقية الرابعة لعام 1949، تنص بوضوح على أنه "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها شخصياً، العقوبات الجماعية وجميع تدابير التهديد أو الإرهاب محظورة". هذا النص الحاسم يؤكد أن أي قوة احتلال أو دولة لا يحق لها أن تفرض عقوبات أو إجراءات عقابية ضد مجتمع بأكمله بحجة أفعال فردية. وبالمثل، فإن القانون الدولي لحقوق الإنسان يكرّس الحق في الحياة والكرامة الإنسانية والحرية، ويحظر الممارسات التمييزية أو العقوبات التعسفية التي تستهدف جماعة بأكملها.
تتعدد صور العقاب الجماعي بحق الفلسطينيين، لعل أبرزها الحصار الشامل المفروض على قطاع غزة منذ ما يزيد على ثمانية عشر عاماً، وهو حصار حوّل حياة أكثر من مليوني إنسان إلى مأساة يومية بسبب حرمانهم من حرية التنقل وأبسط مقومات العيش الكريم. كذلك تُمارس سياسة هدم المنازل التي تُنفذ بحق عائلات كاملة، بذريعة أن أحد أفرادها قام بعمل مقاوم، فيُعاقب الأبرياء بذنب لم يرتكبوه. كما يشمل العقاب الجماعي حرمان جماعي من الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والدواء، إضافة إلى إغلاق المناطق وفرض قيود عسكرية مشددة على حرية الحركة والتنقل، بما يحرم مئات الآلاف من الوصول إلى أماكن العمل أو الدراسة أو العلاج الطبي.
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، شكّل العقاب الجماعي أداة ثابتة في سياسات السيطرة والإخضاع. ففي الضفة الغربية، تتكرر مشاهد الاقتحامات وإغلاق القرى والمدن وسحب تصاريح العمل والحركة من آلاف الفلسطينيين كإجراء انتقامي جماعي، ما يترك أسر كاملة دون مصدر دخل. أما في القدس والضفة، فهدم المنازل الجماعي لم يثبت يوماً أنه يردع أو يمنع تصاعد المقاومة، بل على العكس يعمّق الشعور بالظلم ويدفع نحو مزيد من التوتر وعدم الاستقرار.
وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن العقاب الجماعي يمكن أن يندرج ضمن جرائم الحرب، خاصة إذا ترافق مع استهداف متعمد للمدنيين. هذا السلوك يقوّض القيم الإنسانية التي تأسس عليها القانون الدولي الإنساني، ويجعل المدنيين رهائن للسياسات العسكرية. الأخطر من ذلك أن غياب المساءلة الدولية وازدواجية المعايير في تطبيق القانون شجع إسرائيل على المضي قدماً في هذه السياسات دون خشية من عقاب، الأمر الذي يثير سؤالاً أساسياً حول جدوى القوانين والاتفاقيات إن بقيت حبراً على ورق.
إن استمرار العقاب الجماعي بحق الفلسطينيين يفرض على المجتمع الدولي تحمّل مسؤولياته بجدية أكبر. فالمطلوب ليس بيانات تنديد ولا قرارات غير مُلزمة، بل آليات تنفيذية تضمن إحالة الجرائم الموثقة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفرض عقوبات على المسؤولين عن هذه الممارسات، وتفعيل أدوات الضغط الدبلوماسي والاقتصادي لوقف سياسة الإفلات من العقاب.
إن العقاب الجماعي ليس مجرد انتهاك للقانون، بل هو اعتداء مباشر على جوهر العدالة الإنسانية. والشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت هذا الظلم منذ عقود يقدم للعالم مثالاً صارخاً على خطورة تجاهل القوانين الدولية. إنهاء هذه الممارسات يتطلب إرادة سياسية دولية حقيقية تترجم النصوص القانونية إلى حماية فعلية على الأرض، وإلا فإن الحديث عن العدالة والسلام سيبقى مجرد شعارات جوفاء.