أنشودة الحمار
عيسى قراقع

أنشودة الحمار
عيسى قراقع
(إلى البطل الصامت في غزة)
أيها الحمار،
يا ابنَ التراب المبلول بالدم والصبر والصمت،
يا آخرُ من تبقّى واقفًا في وجه الموت
حين انحنت الجبال، وسقطت العروش،
وغرق الضمير، وغاب الصوت،
لم تُهدهِدك المدافع،
ولا أربكت خطاكَ الطائرات،
ولا قلتَ: "أنا كائنٌ بسيط لا شأن لي بالحروب".
بل مشيت، مثقلاً بالمذبوحبن والجرحى،
تحمل الزاد لمن بقي من الحياة،
وتحمل الحياة في زمنٍ الجوع والمجزرة،
انت الوحيد الشاهد عليه.
طرق بلا طرق هناك،
رؤوس على الجدران معلقة،
لا اسم للشهيد،
ولا من يدل عليه،
دمه يراك،
ودمك على يديه.
**
حين تهاوت البُنى،
وابتلع الركامُ الطرقات،
كنتَ أنت الطريق،
شققتَ الممرات بين الشظايا،
جررت العربة التي فقدت حصانها،
وصار ظهرك هو الخريطة الأخيرة للنجاة.
لكن القصف لا يرحم الصامتين،
الحمير أيضًا سقطت،
بعضها استُشهد تحت الردم،
وبعضها جُرّ إلى الأسر،
بتهمة "شقّ الطرق"،
كأنّ التنفس في غزة جريمة،
وكأنّ نقلَ جريحٍ قنبلة.
**
الناس تهتف،
المنشدون يغنون،
الزعماء يصرخون من خلف الزجاج العازل،
وحدك تمضي،
بلا نشيد، بلا راية، بلا شعار،
تحمل فوق ظهرك قلب المدينة.
أنت لا تتحدث،
لكن خطواتك تقول كل شيء،
تقول إن الصبر ليس استسلامًا،
وإن الثبات ليس جهلًا،
وإن المقاومة ليست دائمًا بالبندقية،
بل ربما – أحيانًا – بحافرٍ يمشي في الظلمة.
**
كنتَ عربةَ الإسعاف،
ومستودعَ الغذاء،
ونقالةَ الشهداء،
وحين عزّ الدواء كنتَ أنت الدواء
بصبرك الذي لم تفهمه البشرية .
يا من لا يملك ترف الجُبن،
ولا سُفن النجاة،
يا من لم تغادرك غزة،
ولم تُغادرها –
لا لأنك لا تستطيع،
بل لأنك لا تخون ،
ويسالونك من تكون؟
انا غزة التي وضعت اثقالها عليه.
**
العالم مشغولٌ بالتقارير،
بالقمم، بالمؤتمرات،
باللغة المعلبة في دهاليز السياسة،
أما أنت فتمضي…
بصمت،
تمشي،
وسط الخراب والرعب،
والجراح تتكئ على ظهرك كأنك الأرض ذاتها،
تحرثها بالموج والحب.
**
يا حمار غزة،
في عالم الرفاه،
حيث تصنع الاسلحة،
وترسل إلى غزة،
يستخدمونك للسياحة والمتعة،
والان تلقنهم درسا،
حمار غزة ارقى من حضارتهم الكاذبة،
لقد أسقطت الأقنعة.
أنت المهزوم في عُرف الأقوياء،
لكنك المنتصر في ميزان القيم،
منك يتعلم الفلاسفة
أن الكائن الأشدّ صمتًا
قد يحمل الحقيقة كلها في عينيه.
يا حمار غزة،
يا بطلًا بلا لافتة،
في زمن تُكتب فيه البطولات بالحبر الفاسد،
أنت القصيدة التي لا تُنشَد،
والأنشودة التي لا تملّ من حمل الأنين.
يا حمار غزة
يا من اشعل الزيت،
وأضاء البيت،
النجوم مطفأة في الكون،
والأرض العربية،
حتى السيف.
**
سلامٌ عليك في الصبح،
سلامٌ عليك في القصف،
سلامٌ عليك حين تُولد الأجيال
وتسير خلفك،
لا لترث الصبر فقط،
بل لتفهم أن البطولة
ليست في الصورة،
بل في المسير،
ومن يدرب خطاه،
على خطوة صاعدة.
سلامٌ عليك
يا شهيدًا بلا نشيد،
ويا بطلًا بلا رتبة،
سلام على من حملوا غزة على ظهورهم،
حين خذلها الجميع،
سلام على من مشى،
بين ارتجاجات المنازل،
والأبواب المتطايرة،
بلا حارس أو لغة.