قمة الاسكا 2025 والبحث عن السلام المفقود
بروفيسور عوض سليمية : باحث في العلاقات الدولية

قمة الاسكا 2025 والبحث عن السلام المفقود
بروفيسور عوض سليمية
باحث في العلاقات الدولية
بعد مرور قرابة ثمانية أشهر على توليه منصب الرئاسة في البيت الأبيض، وحديثه المتكرر عن عالم يسوده السلام، والسعي لتقديم نفسه كرجل إطفاء قادم لإخماد السنة اللهب التي صنعها او شارك في تأجيجها سلفه بايدن وإدارته الديموقراطية -بحسب تصريحاته المتكررة. الى جانب اعلانه الشهير انه قادر على وقف الحرب الروسية-الاوكرانية خلال 24 ساعة من دخوله الابيض. أخيراً تمكن ترامب من لقاء العدو المفترض للديموقراطيين والصديق القديم المزعوم والذي طالما اثار إعجابه في دهائه السياسي وقدرته في التأثير على ديناميكيات المشهد السياسي العالمي كثير التقلبات.
في مشهد استثنائي يعكس تحولاً غير مألوف في البروتوكولات الدبلوماسية، استقبل ترامب نظيره الروسي في قاعدة الميندورف-ريتشاردسون العسكرية بمدينة أنكوريج في ولاية ألاسكا. تميز اللقاء بحفاوة غير مسبوقة. وعلى غير عادته في استقبال رؤساء العالم وطريقته المعهودة بالترحيب بهم في البيت الابيض، هبط بوتين على السجادة الحمراء وسط تحليق لطائرات الشبح الــ F35 فخر الصناعة العسكرية الامريكية، مروراً بين أربع طائرات F22 وصولاً الى نقطة اللقاء قريباً من سلم الطائرة الرئاسية. بدت اللحظات الاولى للقاء كما لو ان صديقين قديمين يلتقيان بعد غياب. وسادت لحظات لم تكن باردة في حديثهما القصير، وكأن كل ما أطلقه ترامب من تهديدات وإنذارات نهائية بدأت تتبخر رغم البرودة القطبية التي تحيط بالمكان.
على مدار قرابة ثلاث ساعات منفردة وبدون شهود، تباحث الزعيمان في العديد من القضايا الثنائية والدولية، بما في ذلك إجراءات حلف الناتو وحالة الاستقرار الاستراتيجي الخاصة بضبط زيادة التسلح النووي الى جانب تقليل مخاطر الاسلحة النووية. والعلاقات الثنائية المتوترة بين القطبين الكبيرين منذ العام 2022. وكانت الحرب الروسية-الاوكرانية القائمة منذ فبراير 2022 جوهر نقاش هذا اللقاء المباشر.
ترامب الذي منح نتائج القمة تقييم 10/10، على الرغم من حالة الغموض السائدة التي اكتنفت نتائجها، وغياب الاجوبة على العديد من الاسئلة المطروحة وعلى ماذا اتفق الطرفان حتى اللحظة. غير ان كلماته لقناة فوكس نيوز كشفت بعضاً من جوانب هذا الغموض "أننا قريبون للغاية من التوصل إلى اتفاق. انظر الآن، يتعين على أوكرانيا أن توافق على ذلك. يجب أن توافق أوكرانيا... ينبغي أن يوافق زيلينسكي". عند هذه النقطة بدا ان ترامب يتخلى رسمياً عن زيلينسكي ويُحمله المسؤولية في حال رفضه الحضور لقمة ثلاثية يجري التحضير لها تجمعه مع غريمه بوتين بحضور ترامب شخصياً. محذراً زيلينسكي في الوقت نفسه، "بأن عليه ان يقبل حقيقة ان لديه الكثير ليخسره في الصراع مع روسيا بإعتبارها دولة عظمى".
لا وقف لإطلاق نار فوري، لا تجميد للعمليات العسكرية، لا هدنة إنسانية، لا صفقة تبادل أسرى او جرحى ولا موعد لإطلاق المفاوضات. هذه كانت أبرز سمات هذه القمة. بعبارة اخرى، بقيت جميع مكونات خلطة الحرب الروسية الاوكرانية واسبابها الجذرية قائمة على الارض كما هي، ولم تحرك نتائج القمة أية قطعة من مكانها. في الواقع، ترامب الذي ضمن الاستحواذ على المعادن النادرة وحق الوصول الى مصادر الطاقة في اوكرانيا بعد توقيعه الصفقة مع زيلينسكي مطلع هذا العام، الى جانب ضمان حصوله على تدفقات مالية كبيرة الى خزينة الولايات المتحدة ثمن جميع مبيعات الاسلحة الواردة لأوكرانيا من جيوب الاوروبيين بعد ان كانت تذهب بالمجان او تكاد في عهد بايدن. أظهر نفسه الآن حمامة سلام وليس طرفاً مُغذياً للحرب، والقى بعبء المسؤولية وما يمكن ان تؤول اليه الامور في حال استمرار الحرب في احضان قادة اوروبا، وتركهم امام خيارين، إما الضغط على زيلينسكي لقبول الحقائق القائمة على ارض المعركة، او الاستمرار في تمويل الحرب على حساب اقتصاداتهم المتدهورة، وبالتالي مواجهة جبهة الرفض المتنامية والمعارضة للحرب التي باتت تتشكل داخل مجتمعاتهم.
كعادته يحرص ترامب على احتكار المشهد الذي يبحث عنه دائماً امام عدسات الكاميرات، وضَمِن حضور صورته في اليوم التالي على الصفحات الاولى في جميع الصحف الامريكية والغربية وربما العالمية، مع تغطية اخبارية كاملة لكل تصريحاته عبر نشرات الاخبار، بالنظر لإيمانه العميق ان انظار العالم دائماً ما تتجه نحوه في كل خطوة وتنتظر ماذا سيقول.
رسائل ترامب في هذه القمة تركت مواقف متباينة على كل المستويات، ووصلت سريعا لكل من بروكسل وكييف دون اغفال قاعدته الانتخابية. على مستوى الداخل الامريكي احتفل أنصاره برئيسهم العظيم والقوي -كما يحب ان يتم وصفه، بإعتباره رجل يسعى الى إحلال السلام مع دولة عظمى بحجم روسيا الاتحادية ويضع حداً لشبح حرب نووية كادت ان تلوح في الافق في عهد سلفه بايدن، بالمقابل، سادت حالة من الغضب في اوساط الديموقراطيين ورعاة الحرب المتشككين في جدوى مساعي ترامب لإحلال السلام مع روسيا وحجم التنازلات التي قدمها ترامب لبوتين في هذه القمة التي وصفوها بالفاشلة.
على الجناب الاخر لحلف الناتو والقارة الاوروبية، سادت حالة من الاضطراب مواقف حلفاء واشنطن قبل انعقاد القمة وتجنب قادة الغرب إطلاق اية تصريحات من شأنها ان تغضب سيدهم الكبير. بعد انتهاء اعمال القمة أصدر قادة اوروبا بياناً مشتركاً جاء فيه "نرحب بتصريح الرئيس ترامب بأن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم ضمانات أمنية. وأن تحالف الراغبين مستعد للعب دور فعال. ولا ينبغي فرض أي قيود على القوات المسلحة الأوكرانية أو على تعاونها مع دول ثالثة. ولا يمكن لروسيا أن تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). بحسب ما نقلته رويترز.
بوتين الذي تجاهل قرار محكمة الجنايات الدولية – بإعتباره مطلوباً للعدالة الدولية، وهبط على الاراضي الامريكية، أجاد العزف على اوتار غرائز ترامب ومدى تعلقه بالمديح والثناء، ونجح في سحب مضيفه نحو اهدافه. من ناحية، ذكّره بالتاريخ المشترك بينهما عندما وقفت موسكو الى جانب واشنطن في محاربة الاعداء المشتركين خلال الحرب العالمية الثانية. واقتبس في تصريحه حديثاً يطرب مسامع ترامب، "أن هذه الحرب ما كانت لتكون لو كنت رئيساً للولايات المتحدة". هذه العبارة يمكن اعتبارها الانجاز الوحيد الذي حققه ترامب من هذه القمة حتى الان. من ناحية اخرى، نجح بوتين في إعادة صياغة افكار ترامب وطرح صفقة كاملة لإحلال السلام الدائم والشامل قبل إعلان وقف إطلاق النار بدلاً من التفكير في الصفقات او الحلول الجزئية المؤقتة، وأرسل رسالة لـــ زيلينسكي جوهرها ان استمرار تأجيل الاعتراف بالواقع والانجازات العسكرية الروسية على الارض سيكون أكثر ايلاماً كلما تأخرت عن الحضور.
في موسكو احتفى أنصار بوتين بما وصفوه إنجازاً كبيراً لزعيمهم ونجاحه في دفع ترامب لإلقاء اللوم على زيلينسكي وتحالف الراغبين في استمرار الحرب من الدول الاوروبية، دون ان يقدم اية هدايا سياسية او تراجع عن مبادئه الخمسة التي حددها في جميع خطاباته منذ إطلاق العملية العسكرية الخاصة في الدونباس- بالتسمية الروسية، للموافقة على وقف إطلاق النار. وفي مقدمتها إقرار خطي من حلف الناتو بعدم التوسع شرقاً نحو الحدود الروسية، وهذا يعني ببساطه، اسقاط كل من اوكرانيا، جورجيا ومولدوفا- جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، من حسابات قائمة الدول المرشحة لعضوية الحلف.
رسالة الاسكا كانت واضحة ووصلت سريعاً الى بريد زيلينسكي. جوهرها، عليك التقاط الفرصة الاخيرة واتخاذ قرار حاسم وسريع، وبغير ذلك، عليك مواجهة المخاطر الناجمة عن استمرار الحرب مع دولة عظمى بحجم روسيا الاتحادية. في هذا السياق، ينسب الى ثعلب السياسة الخارجية الامريكية كيسنجر قوله ذات مرة "أن تكون عدوًا لأمريكا قد يكون أمرًا خطيرًا، لكن أن تكون صديقًا هو أمر قاتل". على هذا النحو يأتي السؤال، إذا كان مصير من يضع نفسه في مسار تصادمي مع واشنطن في خطر، ومن يجد نفسه على قائمة اصدقاء أمريكا سيكون مصيره قاتل. فما هو مصير زيلينسكي الذي ما زال وكيلاً لواشنطن ولم يرتقي لا الى مستوى الصديق ولا الى مستوى العدو.