حرب على الصمود.. التجويع في غزة واستنزاف الكرامة
د. سماح جبر
تحدثت إليّ سيدة خمسينية ذات يوم، وعلى لسانها مذاق ألم قديم، عن ذكرى لم تفارقها منذ الطفولة. أثناء حصار مخيم تل الزعتر عام 1976، حين تحوّل الجوع إلى قانون يومي، سرق شقيقها الأكبر رغيفًا من الخبز وخبّأه تحت الفراش، ظنًا أنه يؤمّن لنفسه حياة ليوم آخر. لكن الرغيف تعفّن قبل أن يؤكل، وحين اكتشف الأب الأمر لم يجد في قلبه مكانًا للرحمة، فضرب ابنه ضربًا مبرحًا. كانت القسوة على الابن انعكاسًا لقسوة الحصار نفسه، حيث تحوّل الخبز إلى غنيمة والصراع على لقمة العيش إلى امتحان للروابط العائلية.
تل الزعتر كان أحد فصول طويلة في تاريخ استخدام التجويع سلاحًا ضد الفلسطينيين. الحصار الذي أودى بحياة الآلاف هناك لم يكن استثناءً في تاريخ الحروب؛ فالتجويع أداة قديمة ومتجددة، من حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية إلى دارفور واليمن وسوريا وإقليم تيغراي الإثيوبي. واليوم، تعاد كتابة هذه القصة على نحو أشد قسوة في غزة، حيث صار الحصار الغذائي أداة منهجية لا تستهدف الأجساد وحدها بل النسيج النفسي والاجتماعي بأسره.
عام 2024 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق قادة الاحتلال الإسرائيلي، متهمة إياهم باستخدام التجويع سلاحًا في الحرب، جريمة وصفها خبراء القانون بـ«التعذيب المجتمعي»؛ عنف بطيء يتسلل إلى أعماق الجماعات، ينهك القدرة على الصمود ثم يسعى إلى كسرها. الباحث القانوني توم داننبوم يرى أن التجويع «يمزق قدرة الإنسان على ترتيب أولوياته الأخلاقية، ويضع غريزة البقاء في صراع دائم مع روابط الحب والصداقة، مفرغًا الضحايا تدريجيًا من معانيهم وقيمهم».
لطالما كان «الصمود» شعارًا أخلاقيًا ومصدر فخر للفلسطينيين، لكنه في ظل الحصار الحالي تحوّل إلى عبء نفسي ثقيل. ما تصفه الأدبيات الحديثة بـ«إرهاق الصمود» يلخص هذه المأساة: ليس تعبًا فرديًا، بل استنزاف جماعي طويل الأمد للقدرة على التحمل. تتراجع الحافزية، تتزايد البلادة العاطفية، ويتحول الشعور بالذنب والاحتراق النفسي إلى رفيق يومي حتى للأطفال والمراهقين. أكثر من 85% من سكان غزة نزحوا قسرًا إلى مخيمات مكتظة تفتقر للماء النظيف والخصوصية، حيث يغدو البقاء ذاته واجبًا مفروضًا، ويتحول الصمود من قيمة إلى ضغط أخلاقي جديد.
ومع مرور الوقت، يتسلل الحصار إلى الذهنية الجماعية في صورة عقلية حصار مزمنة: إحساس دائم بالخطر، انعدام الثقة بالعالم الخارجي، ورؤية ثنائية للعالم تقسمه إلى «نحن» و«الآخرون». تصف الأدبيات النفسية هذه الحالة بـ«الدفاع النفسي الدائم»، حيث تفقد المجتمعات القدرة على التخطيط للمستقبل أو بناء الثقة. في غزة، حيث يمتد الحصار لعقود وتتكرر الحروب بلا محاسبة، تولد أجيال لا ترى العالم إلا من نافذة الخوف والخذلان، لتتشكل هوية جماعية محاصرة من الداخل، فاقدة القدرة على إعادة بناء علاقتها بالعالم.
التجويع لا يهدد الحياة البيولوجية فحسب، بل يعيد تشكيل الذاكرة الجماعية والعلاقات الإنسانية. في تيغراي الإثيوبية، لجأت 87% من الأسر إلى تقليل الوجبات وتجويع الكبار لصالح الصغار، وأحيانًا تجاوز أيام بلا طعام. هذه الممارسات تترك ندوبًا نفسية عميقة وتعيد تشكيل الروابط الأسرية. في غزة اليوم، يضطر الآباء إلى تقسيم اللقيمات وإرسال أبنائهم إلى التكايا المزدحمة لتناول الطعام، بينما يترسخ في ذاكرة الأطفال أن البقاء مشروط بالتنازل عن القيم والتماسك الاجتماعي.
التاريخ يعلّمنا أن آثار التجويع لا تنتهي بانتهاء الحروب. المجاعة الصينية الكبرى (1959–1961)، التي أودت بحياة عشرات الملايين، تركت ندوبًا نفسية ممتدة لأجيال، إذ أظهرت الدراسات بعد نصف قرن أن الناجين منها يعانون معدلات اكتئاب أعلى بشكل ملحوظ، وأن آثارها تنتقل عبر أنماط التربية واستجابات التوتر البيولوجية، لتصبح إرثًا جماعيًا يعبر من جيل إلى جيل. غزة اليوم تقف على أعتاب إرث مماثل من الاضطرابات النفسية الممتدة لعقود.
ولمواجهة هذا العنف المركّب، لا تكفي شحنات الغذاء العاجلة. المطلوب استجابات متكاملة تعيد بناء النظام الصحي، بما يشمل خدمات الصحة النفسية، وتخلق مساحات آمنة لتعافي الأفراد بعيدًا عن الابتزاز المعنوي لفكرة الصمود. فالتجويع سلاح يعيد تشكيل الذاكرة والهوية والعلاقات، ويقاس النجاح الإنساني في مواجهته بقدرة الناس على الاحتفاظ بكرامتهم ومعانيهم وذاكرتهم في وجه حرب معلنة على صمودهم.





