الاستعداد لاستقبال الأسرى المحررين: الرعاية النفسية واجب وطني وإنساني

يناير 20, 2025 - 10:20
الاستعداد لاستقبال الأسرى المحررين: الرعاية النفسية واجب وطني وإنساني

بقلم: د. سماح جبر، استشارية الطب النفسي

عندما يعود الأسرى الفلسطينيون إلى الحرية، يعيشون تجربة مركّبة من المشاعر المتباينة؛ بين الفرح الكبير بالخروج من السجن وبين التحديات النفسية والاجتماعية الناتجة عن سنوات طويلة من المعاناة والحرمان. استقبال هؤلاء الأبطال ليس مجرد احتفال وطني عابر، بل هو مسؤولية أخلاقية وإنسانية تتطلب الاستعداد المجتمعي الكامل لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي الذي يحتاجونه بشدة.

الرعاية النفسية: دور الأسرة والمجتمع

تلعب الأسرة دوراً محورياً في الدعم النفسي للأسير المحرر، حيث تكون هي الحاضن الأول الذي يواجه التحديات النفسية التي تظهر بعد سنوات من الأسر. من المهم أن تعي العائلة أن التجربة القاسية التي مر بها الأسير قد تترك آثاراً نفسية عميقة، مثل اضطرابات النوم التي تتمثل في الكوابيس أو صعوبة النوم بسبب استرجاع مشاهد العنف وذكريات العزل والتحقيق، وفرط اليقظة الذي يجعل ردود فعله مبالغ فيها تجاه الأصوات أو الحركات المفاجئة. كما أن بعض الأسرى قد يظهرون تباعداً عاطفياً وصعوبة في التعبير عن مشاعرهم أو التواصل مع الآخرين.

تحتاج العائلة إلى تفهم هذه التغيرات النفسية وتجنب الضغط على الأسير للاندماج السريع في الحياة اليومية. توفير بيئة آمنة وداعمة يكون أساسياً في هذه المرحلة، مثل إتاحة المجال له للتحدث عن تجربته بحرية إذا أراد، دون إلحاح أو فرض أسئلة محرجة. كما يمكن للأسرة تنظيم أنشطة بسيطة تجمعهم، مثل تناول الطعام معاً أو القيام بنزهة، لتعزيز الروابط الأسرية.

على المجتمع أيضاً أن يكون شريكاً في دعم الأسرى المحررين. إقامة الفعاليات الجماعية التي تحتفي بهم تسهم في إشعارهم بالتقدير والانتماء. كما أن تقديم الدعم المالي والمهني يعد خطوة أساسية لمساعدتهم على بدء حياة جديدة تليق بتضحياتهم.

الإعلام وحساسية إجراء المقابلات مع الأسرى المحررين

يلعب الإعلام دوراً مهماً في تسليط الضوء على معاناة الأسرى وقضيتهم العادلة، ولكنه يحتاج إلى التعامل بحساسية مع الأسرى المحررين. بعد سنوات طويلة من الحرمان والقمع، قد يشعر الأسرى بعدم الارتياح عند التحدث عن تجربتهم، خاصة إذا تم التركيز على تفاصيل مؤلمة. يجب على الإعلاميين أن يراعوا الحالة النفسية للأسرى، وأن يمنحوهم الحرية في اختيار ما يودون مشاركته، دون ضغط أو إحراج. كما يمكن أن يساهم الإعلام في تعزيز الدعم المجتمعي من خلال عرض قصص النجاح والتأقلم، بدلاً من التركيز على الصدمة فقط، مما يعزز من صورة الأسرى كبشر قادرين على التغلب على محنتهم.

الخدمات النفسية التخصصية للأسرى المحررين

إلى جانب الدعم العائلي والمجتمعي، يحتاج بعض الأسرى إلى خدمات نفسية متخصصة لمعالجة الآثار العميقة التي خلفتها تجربة الأسر. لذلك، يجب أن تكون المؤسسات الصحية النفسية على أهبة الاستعداد لتقديم برامج متكاملة تهدف إلى التقييم والعلاج والتأهيل والتوثيق.

يتطلب التقييم النفسي الشامل مقابلات تخصصية لتحديد آثار الصدمة التي قد تشمل الكرب أو مشاعر الاكتئاب والقلق المزمن. بعد التقييم، يمكن تقديم العلاجات النفسية المناسبة، مثل العلاج السلوكي المعرفي الخاص بالصدمات لمعالجة الأفكار السلبية الناتجة عن تجربة الأسر، أو العلاج النفسي الفردي أو الأسري للتعامل مع الجروح العاطفية العميقة التي خلفتها هذه التجربة وتساعد الأسير على استعادة دوره في عائلته.

جلسات الدعم الجماعي تعد أيضاً وسيلة فعّالة، حيث توفر بيئة مناسبة تجمع الأسرى المحررين ليتبادلوا تجاربهم ويعززوا من شعورهم بالتضامن والتمكين.

إلى جانب العلاج، يجب أن يتم التركيز على برامج التأهيل الاجتماعي التي تعيد إدماج الأسرى في المجتمع. تقديم دورات تدريبية ومهنية يعوضهم عن الفجوات التي خلفتها سنوات الأسر، ويساعدهم على استعادة دورهم الفاعل في المجتمع.

في بعض التجارب السابقة، مثل الإفراج عن الأسرى في صفقة شاليط، تم تنظيم جلسات نفسية جماعية ساعدت الأسرى على تجاوز صدمات الأسر والتكيف مع الحياة الجديدة. كما أثبتت المبادرات المحلية التي تقدم ورشات عمل تدريبية وتأهيلية فعاليتها في تقليل العزلة النفسية وتحفيز الأسرى على الانخراط الإيجابي في المجتمع، ومواكبه الأساليب الحديثه للتواصل الاجتماعي.

تحرير النفس بعد تحرير الجسد

تحرير الأسرى لا يكتمل بمجرد خروجهم من السجون، بل يتطلب تحريراً أعمق لروحهم من آثار المعاناة النفسية التي فرضها الاحتلال. هذه العملية تحتاج إلى تكاتف الجهود بين الأسرة والمجتمع والمؤسسات الصحية. الأسرى المحررون ليسوا فقط ضحايا القهر، بل هم أيضا أبطال الصمود الذين يستحقون كل الدعم والرعاية. لنكن عوناً لهم في رحلة التعافي وإعادة بناء حياتهم، فهم رموز نضالنا وحملة راية كرامتنا الوطنية.