جابوتنسكي ونظرية الأمن الإسرائيلي

يناير 12, 2025 - 18:52
يناير 12, 2025 - 18:55
جابوتنسكي ونظرية الأمن الإسرائيلي

أسماء ناصر أبو عيّاش

لا يختلف اثنان حول تداعيات السابع من أُكتوبر وما أحدثته من صدمة في الوعي سواء على مستوى الإقليم بل والعالم، ناهيك عما أحدثته من صدمة مجلجلة في الوعي الإسرائيلي. فقد قلبت المقاومة في إقليم غزة المعادلات وغيرت الموازين وحركت ما كان ساكنًا في وعي العالم.

لقد اعتمدت دولة الاحتلال في بقائها على نظرية الأمن كركيزة أساسية في البقاء ومفهوم الحرب الاستباقية وعلى أرض العدو لافتقار هذا الكيان للعمق الاستراتيجي جغرافيًا، ينطلق هذا المفهوم من مقولة مفادها: "أنه من الحيوي جدًا عدم السماح لأي حرب تدور على أرض إسرائيل، واستبدلت مفهوم الرد، بالحرب الاستباقية فيما إذا حاول العدو العربي التصرف في أرضه على نحو يقلق إسرائيل كالمساس بحرية العبور أو نشر قوات على حدودها أو حرمانها من المياه". لذا كان قرار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس "شركة الملاحة المصرية شركة مساهمة مصرية" ضربة للكيان فشنت عدوانًا ثلاثيًا باالتشارك مع فرنسا وبريطانيا تحت اسم (عملية قادش). 

★ فكرة جابوتنسكي والجدار الحديدي

تعتبر أفكار فلاديمير جابوتنسكي ملهم الحركة الصهيونية ـ المولود في أوكرانيا (1880ـ 1940) ـ هي الأفكار المؤسِّسة لدولة الاحتلال وتقوم على "أنه لا يمكن لكيان يزرع على أرض غريبة أن يحافظ على وجوده إلا بقوة عسكرية فائقة تسندها قوة سياسية فائقة، وأن فكرة الوجود الإسرائيلي تقوم على نظرية الغلبة وإشعار الآخر بأن مجرد التفكير في منازلتها عبثًا لا طائل منه."

قامت هذه النظرية على فكرة التفوق العسكري والاستخباراتي والأمني بشقيه الحقيقي والمتوهم، وهذا الوصف الأخير لا يعني عدم امتلاك الكيان للقدرات العسكرية والتجسسية الهائلة، بل إن هذا التوهم مبعثه فكرة حرب حزيران 1967 وهزيمة الكيان لستة جيوش عربية، وأصبحت قناعة العرب بأن الجيش الإسرائيلي هو الجيش الذي لا يُقهَر!

في موسوعته الشاملة (اليهود واليهودية والصهيونية ـ الجزء الثاني والصادرة عام 1999) وفي الصفحة 485 يقول المفكر العروبي د. عبد الوهاب المسيري: "أنه وانطلاقًا من نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، على العالم العربي أن يكون منطقة واسعة نسبيًا منزوعة السلاح، وإعادة النظر في بنية الجيوش العربية وتقليص أحجامها وقدراتها الهجومية، بل وإدخال تعديلات على الحدود لمصلحة إسرائيل والتوجه لإقامة حزام أمني أردني فلسطيني يرتبط بإسرائيل عبر نظام أمني سوري لبناني." وبحسب المسيري تقوم إسرائيل بتحويل أي انسحاب لها من أي أرض عربية محتلة إلى رصيدٍ أمنيٍ لها ويطرح مثالًا بالقول أن سيناء ليست مشروعًا تنمويًا ولن يكون لأنه يشكل خطرًا على أمن إسرائيل، بل هو مشروع سياسي فقط، فقد احتلت إسرائيل سيناء في 31/ اكتوبر 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر أي قبل حزيران 1967 وانسحبت في عام 1973 عشية حرب أكتوبر، فيما ظلت سيناء رصيدًا أمنيًا لإسرائيل! فمن استراتيجيات إسرائيل أن أي منطقة تنسحب منها تكون امتدادًا أمنيًا لها ولها الحق في دخولها في أي وقت ولنا في اقتحاماتها المتكررة عمومًا ولحدود منطقة رفح مثال حي.

أما فيما يتعلق بمرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني (!) حسبما جاء في اتفاقيات أوسلو (!) فقد كان اختبارًا لمنظمة التحرير الفلسطينية ومدى حفاظها على أمن المستوطنات والجيش الاسرائيلي داخل مناطق الحكم الذاتي.

أما على صعيد الأردن فإن إسرائيل نظرت له من زاوية الوظيفة الأمنية! إذ أدركت أن احتلاله سيكون مكلفًا، لذا ارتأت أنه من الأفضل بقاء الأردن كما هو، بحيث يكون عازلًا أمنيًا لها عن باقي الدول.

إن فكرة الأرض منزوعة السلاح فكرة قديمة في الأمن القومي الإسرائيلي وتكررت في تصريحات العديد من قادة الاحتلال، فقد ورد في تصريح لأريئل شارون في العام 2001 بث على قناة الجزيرة قبوله بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، كذلك ورد في صحيفة هآرتس وعلى لسان نتنياهو دعمه لفكرة إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح.

لقد اعتمد الاحتلال في وجوده وكما ذكرنا آنفًا على ركيزة الأمن.

ففي موسوعته ركز الدكتور عبد الوهاب المسيري على فكرة الأمن عند الإسرائيليين وأضاء على فكرة ما يسمى (المعبد اليهودي ـ معبد القلعة) "حيث شكل اليهود في أوكرانيا جماعة استيطانية هناك وكانت هذه الجماعة في حالة حصار من قِبَل الفلاحين، فواجههم المستوطنون بعنف شديد ـ والوصف هنا للمسيري ـ إلى أن هب الفلاحون وقضوا عليهم."

كذلك عرض الدكتور المسيري ما أسماه بــ " ما يشبه دولة استيطانية صغيرة في أمريكا اللاتينية داخل المنظومة الاستعمارية الهولندية آنذاك تحت اسم (يودين سافانا) ، فتجمع الأفارقة (العبيد) والسكان الأصليين وانتفضوا وقضوا على هذا الجيب الاستيطاني.

إن الهاجس الأمني لطالما وجد عند السكان الأصليين وكان المستوطن ـ كما هو الحال في فلسطين، الكاتبة ـ يعلم في قرارة نفسه أن السكان الأصليين سيهبّون يومًا ما وسيظل الإسرائيلي يعيش في خوفٍ دائمٍ مما يؤدي به إلى مزيدٍ من الشراسة والبحث الدائم عن الأمن المطلق؛ الأمن من جميع النواحي، وهذا مستحيل."

وفي موضوع السلام مع الدول العربية عمومًا تستند الرؤية الإسرائيلية إلى تحقيق مصالح استراتيجية وأمنية واقتصادية، مع التركيز على ضمان تفوقها العسكري في المنطقة. فمنذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر في عام 1979، أظهرت إسرائيل نهجًا براغماتيًا يقوم على إقامة علاقات سلام مع الدول العربية بشكل منفصل، بعيدًا عن حل القضية الفلسطينية بشكل شامل، وتتمحور هذه الرؤية حول تطبيع العلاقات مع الدول العربية مقابل تقديم حوافز اقتصادية وتكنولوجية وأمنية، كما ظهر في اتفاقيات "أبراهام" مع دول الخليج والمغرب والسودان. ومع ذلك، تظل هذه الرؤية محدودة بسبب تجاهلها للقضية الفلسطينية كجذر أساسي للصراع، حيث تركز إسرائيل على "سلام اقتصادي" أو "إدارة الصراع" بدلًا من تحقيق حل عادل ودائم. لكن هذا النهج يواجه انتقادات واسعة لأنه يبتعد عن جوهر السلام الشامل الذي يضمن الحقوق الفلسطينية، مما يثير تساؤلات حول استدامة هذا النوع من الاتفاقيات وتأثيره على استقرار المنطقة، كما أن وجود حالة عدم استقرار في الشرق الأوسط عمومًا تعتبر مشكلة لدى دولة الاحتلال وتشكل تهديدًا لأمنها. فالمنطقة العازلة منزوعة السلاح أو شبه منزوعة السلاح تم تطبيقها بنجاح في اتفاقية السلام مع مصر، أما بالنسبة للضفة الغربية / الفلسطينية وقطاع / إقليم غزة فهناك رؤيتان إما نزع السلاح والسيطرة على المعابر كما يرى حزب العمل أو السيطرة العسكرية المباشرة عليهما كما في رؤية حزب الليكود.    

في الوقت الحاضر فإن العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الفلسطينية يحمل تداعيات خطيرة على مختلف المستويات، سواء كانت إنسانية أو سياسية أو إقليمية. فعلى الصعيد الإنساني، سيزيد العدوان من معاناة الشعب الفلسطيني، حيث تتفاقم الأزمات الإنسانية من نقص الغذاء والدواء والمأوى، ناهيك عن الأعداد المهولة للضحايا المدنيين عدا عن التدمير الممنهج للبنية التحتية والحضارية. أما على الصعيد السياسي، فإن استمرار العدوان قد عزز حالة الغضب والاحتقان، ليس فقط داخل فلسطين، بل في المنطقة العربية مما يزيد من تعقيد مسارات الحلول السلمية.

إقليميًا، قد تؤدي هذه الحرب إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وإشعال موجة جديدة من التوترات بين دولة الاحتلال والدول المجاورة. كما أنها قد تُفاقم من عزلة إسرائيل الدولية، مع تزايد الإدانات العالمية لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب. وفي النهاية، سيؤدي استمرار العنف إلى تعزيز دائرة الكراهية وعدم الثقة، مما يضعف أي أمل في تحقيق سلام عادل ودائم.

خلاصة القول وفي لب معادلة الأمن يتبادر إلى الذهن سؤال: هل حققت إسرائيل الأمن؟ لتأتي الإجابة بحسب رؤية نتنياهو أن "إسرائيل ستظل واقفة على سلاحها مدى الحياة".