قراءة في مشروع إعدام مستقبل غزة

يناير 8, 2025 - 08:46
قراءة في مشروع إعدام مستقبل غزة

اللواء المتقاعد: أحمد عيسى

للوهلة الأولى، تجعل فظاعة جرائم الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الإبادة الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على مدى الخمسة عشر شهراً الماضية من المشروع القول إن إسرائيل الإبادية إنما تنفذ مشروعاً هدفه القومي هو إعدام مستقبل غزة.

لكن قراءة ما ينفذ من جرائم، من زاوية مفهوم الأمن القومي الفلسطيني، وكذلك الإسرائيلي، تجعل في إطلاق مفهوم إعدام المستقبل على غايات هذه الجرائم مغالطة تنطوي على مبالغة، ربما تكون غير مقصودة.

فمن منظور فلسفي وجودي، الأمر يتعلق بالزمن، والزمن يتدفق نحو المستقبل دائماً، الأمر الذي يعني أن إعدام المستقبل مستحيل طالما أنّ هناك زمناً يتدفق نحو المستقبل، وقد ناقش الفيلسوف الألماني المشهور مارتن هايدغر، الذي يُعدّ من أبرز فلاسفة القرن العشرين ومن مؤسسي الفلسفة الوجودية، في كتابه "الوجود والزمان" العلاقة بين الإنسان والزمن وكيفية فهمه للزمن والمستقبل.

ومن منظور ديني إسلامي، فإنّ فكرة إعدام المستقبل وتسليم الخلق والعباد بها مرفوضة تماماً، لأن الأمل والعمل والتغيير جزء من الإيمان بحقيقة أن الإنسان أو الخلق جميعاً لا يمكنهم إعدام المستقبل، لأن الله سبحانه وتعالى هو من يملك الزمن، ولا يمكن لعباده التحكم في مجرياته، بل عليهم العمل في حاضرهم لتحسين مستقبلهم الذي يعني الآخرة، حيث يجازى الإنسان على أعماله في الدنيا، إذ قال سبحانه وتعالى: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" العنكبوت 64.

ومن منظور الأمن القومي الفلسطيني، على الرغم من عدم نجاح الفلسطينيين في تطوير مفهومٍ مُجمَعٍ عليه حتى الآن لأمنهم القومي وجعله الأداة الناظمة لتحديد استراتيجياتهم وسياساتهم، فإن أصغر الفلسطينيين سناً يدرك أن الهدف القومي الأول الذي يحمي أمنهم القومي هو الخلاص من الاستعمار الاستيطاني المجرم الذي تجاوز وصفه بالأبارتهايد، وانتقل إلى مرحلة الإبادية، فجرائم الإبادة التي تنفذ ضدهم في ظل الصمت المريب للقريب والبعيد، وعلى الرغم من أثمانها الباهظة، تستحضر من داخلهم عزمهم وإصرارهم على هزيمة المجرمين وشركائهم بصمودهم وإصرارهم على صناعة مستقبلٍ أفضل.

أما من منظور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وتحديداً وفقاً لمعادلة الأمن القومي الإسرائيلي التي طورت تأسيساً على المفهوم، فإن الغايات القومية هي التي تحدد الوسائل وفقاً للقدرات القومية، وعليه فإن (إعدام مستقبل غزة) من خلال استخدام أسلحة ومتفجرات تحمل مواد سامة لتسميم تربة غزة، وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للحياة الإنسانية وطاردة لسكانها، ينطوي على غباء في تطبيق معادلة الأمن القومي للدولة، لأن في ذلك (إعداماً لمستقبل) إسرائيل، خاصة المناطق المحاذية لقطاع غزة من الشرق والشمال، ومن جهة أُخرى تصبح  سموم تربة غزة خطراً على الجيش الذي يبدو أنه يستعد ويتجهز للبقاء في غزة فترة طويلة، فضلاً عن أنّ تربة غزة تصبح غير صالحة لمخططات اليمين القومي والمستوطنين للاستيطان في غزة كما يعلنون صباح مساء.

تستحضر حالة غزة المدمرة من التاريخ نموذج قرطاج والرومان، حيث كانت الأولى العائق الأبرز، أما الإمبراطورية الرومانية فهي من فرض سيطرتها على أفريقيا، ما دفع الرومان إلى زراعة أرض قرطاج التونسية بالملح بعد احتلالها العام 146 قبل الميلاد لإجبار سكانها المقاومين على مغادرتها، إلا أن الإمبراطورية الرومانية اندثرت من التاريخ، وظلت قرطاج حاضرة ومأهولة بالسكان، وأرضها صالحة للزراعة، ورمزاً من رموز الثقافة العالمية.

وحول معالجة ركام غزة المدمرة، فهي التحدي الأساس، ليس أمام الفلسطينيين فحسب، بل أمام العالم الظالم قبل الفلسطينيين، فهو المطالب بمعالجة هذا التحدي الأكبر الذي يواجه عالماً قد كشفت الجريمة قبح وجهه وزيف القيم التي يدعي أنه يقوم عليها.

أما حول دور الفلسطينيين في هذه المعالجة، فأوصي في هذه المقالة بأن يصمم الفلسطينيون على الاحتفاظ بجزء من الركام وما يحتوي عليه من مخلفات للشهداء والناجين في منطقةٍ محددةٍ من مساحة غزة الصغيرة، وتحويل هذه المنطقة إلى متحف ومزار وشاهد على الجريمة اليهودية الإسرائيلية، ومحفز ودافع لزيادة الإصرار الإنساني على معاقبة المجرمين، وعمل ما يلزم لمنع تكراره في المستقبل الذي لا يمكن إعدامه، تماماً كما هو دور معسكر أوشوفيتز في بولندا ومتحف الهلوكوست في واشنطن.