مشروع سياسي يتغمّس بالدم وتفرش طريقه الإبادة
وسام رفيدي
هل نأتي بجديد عندما نقول أن كل المشاريع السياسية الكبرى للإمبريالية الأمريكية والأوروبية في التاريخ، كانت مغمّسة بالدم وفرشت طريقها الإبادة؟ مشروعهم (الحداثي) الأكبر الذي انطلق قبل قرون، بتمدين العالم وتحديثه، ونقل الشعوب (من الحالة الوحشية) إلى الحضارة، تم عبر إبادة عشرات الملايين من الشعوب الأصلانية في الأمريكيتين وأفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا، فيما نمت وتطورت الرأسمالية الأمريكية والأوروبية باستعباد همجي للملايين من العبيد المجلوبين من أفريقيا، لذلك صح وصف ماركس لتلك الرأسمالية بأنها تقطر دماً. تلك هي السمة الرئيسة لمشروع الرجل الأبيض الأوروبي، أما إنجازاته التاريخية في العلم والصناعة والتقنية، فلا يجب أن تخفي حقيقته الهمجية.
وهل نأتي بجديد إن قلنا أيضاً أن المشروع الصهيوني بالأساس، نشأ كوليد وكجزء من مشروع الرجل الأبيض الأوروبي، عبر الدم وطريقه مفروشة بالإبادة والتطهير والتهجير؟ إن كان نشوء دولة الإبادة قد تغّلف بإطار قرار دولي من مجلس الأمن في حينه، غير أنه من باب الكذب ما رد به مكتب نتنياهو على ماكرون من أن الدولة لم تنشأ عبر القرار الدولي بل عبر الحرب، لأنه لم يقل بطبيعة الحال أنها حرب مجازر وتهجير وتطهير عرقي ضد شعبنا، عبر ترحيل قسري لـ 850 ألف فلسطيني، وتدمير ما ينوف على 500 قرية ومدينة وتجمع سكاني. ومنذ العام 48 حتى مشروع الإبادة والترحيل في غزة والضفة ولبنان، فالمشروع الصهيوني لا يعيش دون أن يتغمّس بالدم ويفرش طريقه بالإبادة.
أما في اللحظة التاريخية هذه، المفصلية بكل المقاييس، فبلينكن وهوكشتين لم يأتيا للمنطقة لبحث (وقف إطلاق النار)، فتلك مهمة أقل بكثير مما يبتغونه، ولعلها فقط المدخل لما يبتغونه. هوكشين حمل معه شروطاً إسرائيلية، معتقداً، كما دولة الإبادة، أن الوضع العسكري لحزب الله يسمح بفرضها، وهو إن كان عرض بعضها، وأهمها نزع سلاح حزب الله، ودفعه إلى ما بعد الليطاني، وإعادة بناء منطقة عازلة تكون (سداح مداح) لدولة الإبادة وعملائها، كما (دولة) سعد حداد التي دحرتها المقاومة، غير أن مهمته الأساسية كانت فرض إعادة تشكيل النظام السياسي، عبر انتخاب رئيس على جثة متوهمة للمقاومة اللبنانية وحزب الله، وأخذاً بتوصية نتنياهو للقوى اليمينية الفاشية المتحالفة معه مثل القوات والكتائب، بتفجير الصراع الطائفي لسحق حزب الله والشيعة في لبنان.
في ذهن هذا الإمبريالي، كما في ذهن نتنياهو، بالتأكيد، تجربة العام 82 حينما حملت الدبابة الإسرائيلية بشير الجميل لقصر بعبدا، وتجربة اتفاق 17 أيار وشقيقه أمين الجميل. ولكن، كالعادة، يتميز الإمبريالييون بعدم قراءة التاريخ، وذلك مظهر من مظاهر الغباء، فبشير الجميل تمت تصفيته من القوى الوطنية اللبنانية، فلم تنفعه مائدة التبولة والكبة اللبنانية المقدمة من زوجته لزائره شارون، فيما اتفاق 17 أيار سقط ومعه رجله أمين الجميل، وجرى تحرير الجنوب في العام 2000 بقوة المقاومة، وهزيمة دولة الإبادة في العام 2006.
ليس اليوم مثل الأمس بالنسبة لقوة المقاومة ومقدراتها، وهذا معروف، وهذا ما يثبت يومياً ببطولات التصدي الميداني في الجنوب، وفي رشقات الصواريخ النوعية، وفي إعادة بناء ما تهدم من قوة حزب الله وآلياته التنظيمية القيادية، لذلك مفهوم ما قاله محمد عفيف، مسؤول العلاقات الإعلامية رداً على مَنْ يستعجلون من عملاء دولة الإبادة الجني السياسي لما يعتقدونه (هزيمة الحزب عسكرياً)، حين قال لهم (بكير بكير بكير). كما أن اليوم هو ذاته الأمس بالنسبة لممكنات هزيمة مشروع هوكشتين ونتنياهو، كما كرر القائد الكبير الشهيد نصر الله مرارا، وأعادها من ورائه الشيخ نعيم قاسم وممثلو الحزب في البرلمان، أن الكلمة الفصل للميدان، وهذا رهان مستحق على قدرات الحزب وجراءة مقاتليه واحتضان القاعدة الشعبية لهم.
أما الخطر الأكبر فهو السعي الداخلي من الأطراف اللبنانية المحسوبة على محور دولة الإبادة/ أمريكا/ الخليج لتفجير الوضع الداخلي في وجه المقاومة، وهي وإن لم تفعل ذلك حتى اللحظة، فهي عبر التاريخ، وخاصة 82، أبدت استعدادها لتكون فعلا ذراع دولة الإبادة في لبنان في وجه المقاومة حين أتت ببشير الجميل على ظهر الدبابة الإسرائيلية للقصر. ويمكن اعتبار الترحيل والمجازر في الجنوب، وتدمير القرى والقصف الهمجي للضاحية، ضغطاً على الحاضنة الشعبية للمقاومة للانفكاك عنها، الوسيلة التي لا يمل الصهاينة من استخدامها في لبنان، كما فعلوا ويفعلون في القطاع، ليغدو الحفاظ على تماسك تلك الحاضنة من أبرز مقومات الانتصار.
أما بلينكن فقد أعلن أن زيارته تهدف (لإنهاء الحرب لتهيئة الظروف لاستقرار إقليمي أوسع)، وبما معناه إيجاد ترتيب استراتيجي للوضع السياسي والأمني في المنطقة، بما يتفق وشعار نتنياهو بعد ضرب حزب الله قبل شهر تقريباً، وبعد الاستشهاد البطولي للقائد السنوار، بناء شرق أوسط جديد.
ما زال الامبرياليون الأمريكان والأوروبيون ومعهم وليدهم دولة المشروع الصهيوني يراهنون على هزيمة المقاومة في القطاع، لتكون تلك الهزيمة مدخلاً (لليوم التالي)، الأمريكي الذي تتطلع إليه، وتشارك فيه أنظمة عربية لتصفية القضية الوطنية سياسياً. كل مقولة اليوم التالي أمريكية بامتياز، أما مقولتنا، وحسب التوصيف الدقيق للصحفي إبراهيم الأمين، فهي (يومنا الحالي) يوم الصمود والمقاومة.
ويومهم التالي باتت معالمه واضحة تماماً. بدعم سياسي أمريكي وأوروبي صريح، ومشاركة ميدانية فعلية في الجهد العسكري، يجري تهجير شمال القطاع، وجزر السكان بطريقة همجية تعكس انحطاطاً أخلاقياً لا مثيل له في التاريخ. لا ينفع تغطية المشاركة الأمريكية الأوروبية في الإبادة والتهجير، واستمرار الحديث الممجوج والكاذب والمخادع حول إدخال المعونات الإنسانية، ورفض تهجير السكان، وكل ذلك الضجيج الخطابي يتزامن مع حرب تجويع ومجازر وترحيل للسكان.
إن يومهم التالي هو إعادة بناء الشرق الأوسط وفق الاستراتيجية الإبراهيمة: إخضاع المنطقة للنفوذ الصهيوني، وعبر الشركاء الأذلاء من حكام عرب، ارتضوا على أنفسهم الوقوف ليس موقف المتفرج على ذبح شعبنا فحسب، بل والمشاركة في استثمار إبادته في مشروع أمريكي صهيوني بامتياز.
ولكن كما في لبنان في القطاع. الميدان ثم الميدان ثم الميدان. هنا الرهان على هزيمة مشروعهم وتحويل مخططاتهم لاضغاث أحلام. سبق وأعلن الجعجاع نتنياهو قبل شهور أنه لم يتبق سوى 4 كتائب في رفح، لتعود جباليا وبيت لاهيا، بعد (الانتهاء منها) كما زعموا، لتنفجر في وجوههم كمائن وقنص ومقذوفات صاروخية ليلحسوا من جديد أوهامهم بتصفية المقاومة، ويعلنون أن المقاومة تعيد ترتيب صفوفها وتعويض خسائرها لمعركة طويلة كما نقلت وسائل الإعلام والمراسلون العسكريون.
كما في لبنان وفي القطاع. ليست المسألة وقف إطلاق النار، بل السعي لمشروع سياسي على مستوى المنطقة، يستثمر ما يعتقدونه ويتوهمونه هزيمة المقاومة هنا وهناك. هم يعتقدون ويخططون ويبحثون ويضغطون، والمقاومة هنا وهناك أيضا تخطط وتقاتل وتضغط، فالتفاوض الحقيقي هو على الأرض في الميدان، والورقة الأقوى على طاولة المفاوضات هي الصمود والمقاومة، لذلك رجع هوكشتين مدحوراً في جولته الأخيرة. تلك الورقة باستمرارها في لبنان وفلسطين ستجعل من مخططاتهم أضغاث أحلام. هنا الأمل وهنا التطلع.
.............
المقاومة هنا وهناك أيضا تخطط وتقاتل وتضغط، فالتفاوض الحقيقي هو على الأرض في الميدان، والورقة الأقوى على طاولة المفاوضات هي الصمود والمقاومة، لذلك رجع هوكشتين مدحوراً في جولته الأخيرة.