وداعاً أيها النايف الجميل النبيل!
المتوكل طه
الموت سيلٌ قدريٌّ يغسلنا بِقَسوَتِهِ،لِنَحتفلَ بَمنْ أصابتهم رعشتُهُ الغامضة، وَلْنُؤكَّدَ أنّك،رغم رحيلكَ المُفْجِع،ما زلتَ في طولكرم،تصلّي..في أقاصي الروح.
كان ينبغي لكَ أن تكون شاعراً ممسوساً بسنبلةِ اللّيل ونجمة النهار،لكنكَ وقعت في شُبهةِ الشجر،وما نبت عليه من كلام وحرير.وكان لكَ أن تلبس دُرّاعة الصوف في خشوع الأديرة،أو تنفض إثمدَ القلم كلّما هبطت آيةٌ من نور على ورق يافع نظيف.
..لم تبرأ من السجن،رغم سنوات الناي وعروق الذهب الحِبريّ على القميص البسيط..وقد آثرتَ الاصطفاف مع عقل الواقع الذي ما فتئ يبحث عن رأسه بين المجنزرات وحيطان المخيّم الكابية وصرخات الصغار المفزوعين باليُتم والرُعب والشجر المخلوع عن مُلْكِه الأبدي،ومع هذا لم تحقد ولم تَدْعُ لثأرٍ،بل،ربما تجاوزتَ،حتى المبالغة،في دعوتكَ لتعايشِ الكفّ مع البندقية.وأعتقدُ،مثلكَ، كليّاً،أن السلام مع القاتل،لن يكون على هذه الأرض الصعبة،وعزاؤنا أن قرارةَ قلبك تنبض بهذا الاعتقاد الباهظ،أيضاً..لكنه،أي قلبك،لم يحتمل ما يحدث في غزّة والمخيمات،فاحتشد وانفجر،مثل نافورة نورٍ،أطفأتها الظلمةُ البغيضة.
هل قلتُ لكَ:إني أحبكَ.نعم،أحبك أيها الرجل النبيل الجميل الدّمث المثقف النضر المتواضع المناضل الموقر...وكنتُ آملُ أن تنتظر بعض السنين لعلك تستمتع بالزغب الناعم الذي سيكبر على أجنحة النصر الآتية..ولا تستعجل لحظة الاندماج والغرق..فثمَّة وقت مملّ أمامنا أيها المعلّم الصديق الأخ الكبير الحبيب.
يا فتى الفتيان!قدّ قطعت عنان الفرس،وأجهدك اللهاث لتصل إلى كوَّة الغياب، وتمسك بمناديل الفردوس المقدّسة.والعزاء أن البراءةَ لم تهجرك،حيّا وميتاً،على رغم أن المعرفة الملتبسة أو الناقصة أو المدّعية راحت تغزو "المثقفين"كالأَمراض العصريّة الرديئة،وكأن معرفتك كانت مرآةً لم يصلها غبشُ التشاوف أو الوهم بالكمال.
لقد بدأتَ من حيث بدأنا..وأرجوك يا معلّمي أنَّ يتذكرّ التلاميذُ كلماتنا الأولى عن الصواب والخطأ،والمحراب والنهر البعيد،وأصوات الجنود والمهزومين..هل نسيتَ،أم غفلتُ،أن تناسى التلاميذُ وانشغلوا بالسراب؟
أيّها الشاب الشايب!لم تتجرّأ عليك السنوات،رغم ثلوج فوديك ولمّتكَ الفضيّة،وبقي الطفلُ فيك يضحكُ،كما ظلّ الفتى بين كتفيك يصهل مثل حصان وحشيّ جميل..فهل من المعقول أَن تكون بهذا العمر،حتى تبرّر الرحيل؟
يا شيخي العزيز ويا صديقي الرائع!الدنيا اليوم ناقصة دونك.وأرجو لك الرحمة والقبول،وأنت بين يدي ربٍّ كريم رحيم عفوّ غفور،أسأله أن تكون ضيفه الليلة،كما سيكون الحزنُ ضيفنا الممضّ الثقيل.
وأسأل:هل قلت لك إني أحبك؟ لستُ وحدي الذي أكرر السؤال!بل كل مَن التقاك،فإنه يتحسس ،الآن،ضلوعه ليلامس جوهرة تركتها فينا.
إذهب،واكمل طريقك نحو الجنّة،واسبح في براري الفراديس،وطَمْئِن الشهداءَ،هناك،بأن البلادّ،رغم المقتلة والمحرقة،بخير ..ونحبك.