محطات المصالحة الفلسطينية من القاهرة إلى الصين

أغسطس 12, 2024 - 09:34
محطات المصالحة الفلسطينية من القاهرة إلى الصين

عقل صلاح

رعت العديد من الدول جولات المصالحة الفلسطينية– الفلسطينية، والتي ما زالت مستمرة، وتتنقل من دولة لأخرى، وقد نصل لعقدها في جميع دول العالم. فقد انطلقت جولاتها الأولى من القاهرة، تلبية لدعوة من جمهورية مصر العربية وبرعايتها عام 2005، ثم الوثيقة التي تم إعدادها من قبل نخبة من قيادات الشعب الفلسطيني في السجون الإسرائيلية، وسميت بوثيقة الأسرى عام 2006. كما جاءت وثيقة اتفاق مكة عام 2007، برعاية الملك المرحوم عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، وتلاه لقاء صنعاء بمبادرة طرحها الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح عام 2008، ولقاء السنغال عام 2009 في دكار، تلبية لدعوة الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد. وقادت القاهرة "اتفاقية الوفاق الوطني" تحت رعاية الرئيس المصري الراحل حسني مبارك عام 2010، ومن ثم قدمت الخرطوم وساطة قادها الرئيس السوداني السابق عمر البشير عام 2010، ومن بعدها عقد لقاء في دمشق عام 2010 بين حركة حماس وحركة فتح، لكنه باء بالفشل وعاد النقاش في النقاط التي تم حسمها في الجلسات السابقة ومن أهمها الانتخابات. وبمشاركة مصرية تم التوقيع على اتفاقية "الوفاق الوطني الفلسطيني" في القاهرة عام 2011، وتلاها لقاء المغرب الذي نظمه حزب الأصالة والمعاصرة المغربي في مدينة الصخيرات لدفع جهود المصالحة الفلسطينية في عام 2012، ومن بعدها اتفاقية الدوحة التي وقعها الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل آنذاك برعاية أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل الثاني عام 2012.


وتلاها لقاء بيروت عام 2013 واتفاق القاهرة في نفس العام، وتفاهمات اتفاق مخيم الشاطئ التي تم التوصل إليها بين الحركتين في بيت القائد إسماعيل هنية في القطاع عام 2014 بشأن تنفيذ كافة بنود المصالحة، ومن أبرزها تمكين حكومة الوفاق الوطني، برئاسة الدكتور رامي الحمد الله التي تشكلت في 2 حزيران/ تموز 2014 من بسط سيطرتها على القطاع. ومن ثم لقاءات الدوحة عام 2015، برعاية قطرية وبدعوة من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. ومن ثم دخلت جنوب إفريقيا على خط المصالحة الفلسطينية عام 2016، حيث تم عقد جلسات بين الحركتين وباقي الفصائل، قادها نائب الرئيس الجنوب الأفريقي لشؤون الشرق الأوسط إبراهيم إبراهيم، ومن ثم استضافت سويسرا حوارات بين الحركتين وشخصيات فلسطينية في العاصمة السويسرية جنيف عام 2016، وجاءت الدعوة من خلال مركز مسارات في رام الله، وهذه المرة الثانية التي تتدخل فيها سويسرا من أجل إنهاء الانقسام. ومن أبرز الملفات التي تمت مناقشتها ملف الموظفين العموميين في القطاع والبالغ عددهم تقريبًا 40 ألف موظف تم تعيينهم من قبل حكومة حماس في القطاع، وهو الملف الأهم، ويقال أنه هو وراء عرقلة المصالحة. وتلت ذلك لقاءات بيروت في عام 2017، حيث شهدت العاصمة اللبنانية بيروت العديد من اللقاءات بين التنظيمات الفلسطينية، بحضور الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي آنذاك رمضان شلح، علماً أنه قدم مبادرته للخروج من المأزق الفلسطيني الحالي في تشرين أول/ أكتوبر عام 2016، وسميت مبادرة "النقاط العشر". وفي هذا الإطار، استضافت موسكو لقاءً جديدًا في كانون الثاني/ يناير من السنة نفسها بدعوة من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، حيث تم عقد لقاء موسع يجمع ممثلي الفصائل الفلسطينية، وهو ثاني لقاء يستضيفه المعهد بعد اللقاء الذي عقد عام 2011 من أجل إنهاء الانقسام.


ومن ثم لقاء رفع العتب في 17 نيسان/ أبريل2017 بين قياديين من فتح في القطاع مع قادة حماس، تمهيدًا للقاء وفد السلطة الذي شُكّل من ستة أعضاء من مركزية فتح من أجل لقاء قادة حماس وتسليمهم مطالب السلطة. لكن بعد التوتر الذي نشب بين الحركتين، عدلت فتح عن إرسال الوفد وكلفت عضوي اللجنة المركزية المقيمين في غزة روحي فتوح وأحمد حلس عقد لقاء مع قادة حماس وتسليمهم المطالب. وهذا ما أكده نائب رئيس حركة فتح محمود العالول، بأن "وفد الحركة عدل عن زيارة غزة بعد تسليم رسالة فتح إلى حماس، ومفادها حل اللجنة الإدارية، وتولي الحكومة مسؤولياتها". وقال عضو المكتب السياسي لحماس صلاح البردويل "طرحنا خلاله قضايا مهمة، على رأسها تهيئة الأجواء لاستئناف المصالحة وتوافقنا مع وفد فتح على قيام حكومة التوافق بأداء مهماتها في القطاع، وأن تتنحى اللجنة الإدارية التي صادق عليها المجلس التشريعي لإدارة الأوضاع في غزة حال استلام الحكومة مهامها بشكل كامل". ويذكر أن الرئيس عباس قام في 22 كانون أول/ ديسمبر 2018، بحل المجلس التشريعي، علماً أن آخر انتخابات للمجلس التشريعي قد جرت عام 2006، وهو معطل منذ الانقسام، على الرغم من أن حماس كانت تعقد الاجتماعات الدورية للمجلس في القطاع، من دون حضور الكتل البرلمانية للفصائل، وأن حله زاد من عمق الانقسام في الساحة الفلسطينية. وقد هدد عباس في يوم إعلانه عن حله، باتخاذ خطوات ضد حماس على خلفية اتهامه لها بالمسؤولية عن تعطيل تحقيق المصالحة لإنهاء الانقسام الداخلي.


ولم تحقق زيارة وفدي فتح وحماس للقاهرة في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 تقدمًا في مسار المصالحة الفلسطينية، حيث قامت القاهرة برعاية توقيع اتفاق تسليم إدارة القطاع للسلطة في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، غير أنه سرعان ما تعثر بسبب اختلاف فتح وحماس على تفسير بنوده وآليات تنفيذه. وفي صيف 2018، نشطت القاهرة من أجل إيجاد آليات جديدة لدفع عجلة المصالحة، وبدت أكثر تفهُّماً لبعض مطالب حماس، كما تساهلت إلى حد كبير في حركة مرور الأفراد عبر معبر رفح. وقام المسؤولون المصريون المعنيون بملف المصالحة بزيارات لغزة ورام الله، وباستقبال وفود من فتح وحماس. ومن ثم مبادرة الثمانية فصائل في القطاع التي أُعلن عنها في أيلول/ سبتمبر 2019، حيث أعلنت حماس قبولها ولكن فتح رفضتها مباشرة، ودعت إلى الذهاب للانتخابات كحل جذري للانقسام.


وعلى المنوال نفسه، جاءت حوارات إسطنبول بين حركتي فتح وحماس، في 24 أيلول/ سبتمبر 2020، وتم الاتفاق على إنهاء الانقسام وتوحيد الصف لمجابهة ما تتعرض له القضية الفلسطينية، وإجراء الانتخابات العامة على قاعدة التمثيل النسبي الكامل في غضون 6 أشهر، ومع انطلاق الاستعدادات لإجراء الانتخابات، أصدر الرئيس عباس مرسومًا بتأجيل الانتخابات بذريعة عدم وجود موافقة إسرائيلية لإجراء الانتخابات في القدس.

 وفي نفس السياق، وقّعت الفصائل الفلسطينية في الجزائر في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، اتفاقًا لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، وينص الإعلان على تكريس مبدأ الشراكة السياسية، عن طريق الانتخابات، وتعزيز وتطوير دور منظمة التحرير، وتفعيل مؤسساتها بمشاركة جميع الفصائل، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وانتخاب المجلس الوطني في الداخل والخارج حيثما أمكن، بنظام التمثيل النسبي الكامل وفق الصيغة المتفق عليها، بمشاركة جميع القوى، خلال مدة أقصاها عام واحد اعتباراً من تاريخ التوقيع على هذا الإعلان.


وفي الإطار نفسه، استضافت موسكو الفصائل الفلسطينية في الأول من آذار/ مارس 2024، التي اتفقت على تقريب وجهات النظر لإنهاء الانقسام الفلسطيني وأن اجتماعاتها ستستمر في جولات حوارية قادمة للوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضم الفصائل كافة في إطار منظمة التحرير. وهذه هي المرة الأولى التي تجتمع فيها الفصائل منذ السابع من أكتوبر 2023، في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع.


ومن ثم لقاء الصين الذي ضم مختلف الفصائل الفلسطينية، وأعلنت الفصائل في 23 تموز/ يوليو 2024، حصول اتفاق بين 14 فصيلًا فلسطينيًا لتشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة بتوافق الفصائل الفلسطينية، على أن تبدأ بتوحيد المؤسسات الفلسطينية كافة في الضفة والقطاع، والمباشرة في إعادة إعمار غزة، والتمهيد لإجراء انتخابات عامة بإشراف لجنة الانتخابات المركزية بأسرع وقت.


من الملاحظ أن العديد من القيادات والرؤساء العرب وغيرهم من الذين رعوا المصالحة إما توفاهم الله أو تنحوا على مدار عقدين تقريبًا من جولات المصالحة التي لم تتحقق، وتم اغتيال بعض القيادات المركزية الفلسطينية التي رعت المصالحة من قبل الاحتلال، مثل القائد الشهيد صالح العاروري الذي كان له دور بارز في إتمام الاتفاق مع القائد الفتحاوي جبريل الرجوب، وتم تعطيل هذا الاتفاق الذي كاد ينقل الساحة الفلسطينية إلى الانتخابات الثالثة العامة، ومن قبله اتفاق الشاطئ الذي وقعه القائد الشيخ الشهيد إسماعيل هنية في بيته في المخيم والذي تم إحباطه؛ فالثابت الوحيد في محطات قطار المصالحة هو عدم وجود إرادة سياسية في إتمام المصالحة، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، وانتخابات المجلس الوطني، ما يعني وجود قيادة جديدة للشعب الفلسطيني، وهذا ما لا ترغب به القيادات الرسمية الفلسطينية. ولعل تعطل المصالحة والانتخابات الثالثة التي كان يفصل بينها وبين إتمامها أيام، لهو أكبر دليل على عدم وجود الرغبة على التنحي الديمقراطي في هذا الوقت.


وعليه، فإن قطار المصالحة الذي بدأ بالقاهرة، وانتهى في الصين والذي ينتظر محطة جديدة، يشير إلى أن الخلل لم يكن في الوسطاء يومًا، بل في حالة الخصام بين حركتي فتح وحماس والتي يمتلك كل منهما خطًّا سياسيًّا مختلفًا عن الآخر، بالإضافة إلى رفض الغرب القبول بأية حكومة تضم حماس ما لم تعترف صراحة بإسرائيل، وتسلم سلاحها وأنفاقها وتحل كتائبها، وهذا لا يمكن حدوثه، لأن القانون الدولي شرع مقاومة الاحتلال من أجل تحرير فلسطين. ويبدو أن اتفاق الصين مصيره كمصير بقية الاتفاقيات التي جرى التوقيع عليها سابقًا، دون أن ترى النور.


الأمر الذي منع الرئيس عباس من إتمام المصالحة، هو أن السلطة التي يرأسها رهينة الالتزامات المجحفة، وأن طريق الوحدة الوطنية تمر بضرورة إنجاز الشراكة السياسية الكاملة، وما يعنيه ذلك من أن تصبح حماس شريكًا أساسيًا في اتخاذ القرارات والسياسات، فحماس ليست بحجم الفصائل الأخرى، كما أنها أكثر تنظيمًا من حركة فتح، ما يعني أن مشاركتها يمكن أن تفتح لها طريق القيادة. إضافة إلى أن المشاركة في القرار لن تقتصر على فتح، بل سيضطر لمشاركة حماس. والوحدة ستسبب غضبًا إسرائيليًا كبيرًا، وبما أن إسرائيل الدولة المحتلة فهي تلعب في الملعب الفلسطيني دورًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله.


وهنا يبرز السؤال بعد أكثر من عشرة أشهر على حرب الإبادة والتجويع التي تشنها إسرائيل على القطاع، واستشهاد أكثر من أربعين ألف وجرح أكثر من مئة ألف واعتقال حوالي عشرين ألفاً، وقتل المئات منهم في السجون الإسرائيلية، وتدمير 85% من مناطق القطاع، والسيطرة الاستيطانية والعسكرية من خلال الاستيطان، وتجريد السلطة من غالبية الصلاحيات التي بيدها في الضفة. إذن، ماذا تنتظر القيادة الفلسطينية لإتمام المصالحة؟!

إن قطار المصالحة الذي بدأ بالقاهرة، وانتهى في الصين، والآن ينتظر محطة جديدة، يشير إلى أن الخلل لم يكن في الوسطاء يومًا، بل في حالة الخصام بين حركتي فتح وحماس والتي يمتلك كل منهما خطًّا سياسيًّا مختلفًا عن الآخر.