عندما يُشربُ بدمائنا لبناً
عطية الجبارين
جُلنّا سمع بالحرب الطاحنة والطويلة التي وقعت في العصر الجاهلي بين قبيلتي بني بكر وتغلب والتي عُرفت بإسم حرب "البسوس" نسبة لرأس الفتنة والشر البسوس بنت منقذ التميمية. هذه الحرب التي كانت بسبب قتل البكري جساس بن مُرّة، وائل بن ربيعة التغلبي والمشهور في التاريخ بـ"كليب" . وقد قاد التغلبيين في هذه الحرب شقيق القتيل سالم بن ربيعة المشهور بـ"الزير سالم"، والذي رفض الدية وكل أشكال الصلح مع أبناء عمومته، وكان شعاره أن لا يُبقي من البكريين طفلاً ولا شيخاً ولا أمرأة . ويعود هذا الرفض القاطع من الزير وبشدة لكل وساطات العرب في قضية الصلح، وإعطاء الدية إلى تلك الكلمات التي قالها له شقيقة المغدور "كليب" قبل مقتله بمدة قصيرة، بعد أن نشب بينهما خلاف في الفترة التي كانت النفوس تمتلىء حقداً وتتأجج بين بني بكر وتغلب، إذ أثرت فيه تلك الكلمات، وكان أثرها عميقاً في نفسه، وكانت تحمل رسائل التحقير له وتصوره بالعاجز والمتخاذل الجبان. فقال وائل في تلك المشاحنة لأخيه سالم (والله لو قُتلتُ ما أخذت بدمي إلا اللبن). أي أراد وائل أن يُحقّر أخيه ويحط من شأنه، وهو كناية عندهم عن بيع دم القريب بتوافه الأمور، وهي مهانة ومسبة في عرف العرب آنذاك ...
إن الناظر لحالنا في هذا العصر والآوان يجد أن دماءنا وأعراضنا أصبحت رخيصة بعد أن تولى أمور حياتنا من ليسوا من جلدتنا ولو تسموا بإسمائنا. فالدماء التي تُراق من أبناء الأمة في الصباح والمساء ومن مشرقها لمغربها لا ثمن لها عند حكامنا وقادة أمورنا إلا أخذهم وشربهم اللبن مقابلها، بل باعونا بما هو أقل من اللبن، وشربوا دية لنا ما هو دونه.
إن المعادلة والمفارقة تكمن بين ذاك العصر وقادته، وعصرنا ومن تولى شؤوننا أن "الزير سالم" رفض أن يأخذ بدل دم أخيه لبناً لأنه يجسد الأخوة الحقة، ولقطع الطريق على كل الساعين للدية مقابل عدم أخذ الثأر، قال على لسان طفلة شقيقة كليب "اليمامة" قولاً مستحيلاً أمام كل وجهاء القبائل العربية الساعية لمنع الحرب إذ قالت: "أريد أبي حيّاً". واليوم من تولى أمورنا نقضاء لنا في كل شيء بل أتخذوا شعوبهم والأمة عدوا لهم ولا أخوّة بينهم وبين الأمة بل يبيعوننا في أسواق النخاسة بأقل الأثمان، وأرخص الأشياء.
إن سبيل خلاصنا من هذا الواقع المظلم لا يكون إلا بعودتنا كتلة واحدة، يحكمها ويرعاها من يتقي الله فيها ويحس أنه جزءٌ من هذه الأمة، فلا يأخذ بدل دمائنا المراقة ظلماً وبغياً اللبن، بل يقول لكل المعتدين علينا، وكل من يريق منّا قطرة دم، كما قال من سبقه ممن تولى حكمنا ورعايتنا لملك الصليبين: "لا ، والله لا تُروع بك مسلمة أبداً".