لم تسلم مكتبة ولم يسلم كتاب في غزة

يوليو 11, 2024 - 10:51
لم تسلم مكتبة ولم يسلم كتاب في غزة

بهاء رحال

ربما يقول قائل أنه من الترف الحديث عما أصاب مكتبات غزة، في ظل المشهد الدموي العام، والحرب المستمرة بكل الأشكال والوسائل، وأمام جوعى لا يجدون ما يملأون به أمعاءهم الخاوية، وحالات الفقد الرهيب، وقسوة الواقع الذي يعيشه الناس منذ عشرة أشهر مضت. كل من يقول ذلك قد يكون على حق، ولديهم الكثير من المشاهدات التي يروها من زاوية أكثر أهمية من أي شيء آخر. كأن نكتب عن نقص حليب الأطفال، وعن وحشية هذا العدو الذي تفرد في دمويته وعنصريته، ولم يترك فعلًا همجيًا إلا وارتكبه، أو أن نكتب عن نسب الإعاقات التي تسببت بها الصواريخ والقذائف وقنابل الموت، وعن حياة العراء داخل خيام حرارتها لا تطاق في هذا الصيف، ومراكز إيواء لا تصلح للعيش الآدمي.
كثيرة هي القضايا التي يرى أصحابها أنها الأحق وهم على صواب، ولو قيل لي ماذا ستكتب غدًا، لقلت عن دموع الأمهات، وعن تلك الطفلة التي صارعت من أجل البقاء، وظلت قيد الحياة لخمسة أيام مدفونة تحت ركام بيتها، وفي لحظة إنقاذها توفيت قبل وصولها إلى المستشفى، وربما كتبتُ عن هذا البكاء في وصف حالتنا، حين أجهشت بالبكاء.
عشرات المكتبات العامة تم تدميرها بقصد حرق كل إرث، وعشرات آلاف المكتبات الخاصة دمرت وأحرقت وتناثر رمادها بعد أن طالها القصف المنظم الذي استهدف كل شيء في غزة. كتّاب وشعراء وروائيون ورسّامون ونحّاتون وفنّانون قصفتهم الطائرات في بيوتهم وبين مكتباتهم التي كانت لهم عالمًا يخترق جغرافيا غزة المحاصرة، ويتخطى حدود البلاد، ويصلهم بالعالم الذي زاروا مدنه وعواصمه وتعرفوا على ثقافاته وطقوسه من خلال مطالعاتهم لكل ما كُتِب، حالهم حال بقية كل الشعوب في العالم، إلا أن الفرق هنا أنهم اليوم بلا مكتبات عامة أو خاصة، فالحرب أحرقت المكتبات وأتلفت كل الكتب، وقتلت الكثير من القرّاء والكتّاب.
صديقي الذي كان يقيم ندوة أسبوعية على شاطئ البحر في غزة، لمناقشة كتاب جديد مع مجموعة يزيد عددها عن العشرين مشارك دائم ورواد متفرقين، أخبرني بأن تسعة من أعضاء النادي الثقافي استشهدوا وثلاثة آخرين بترت أرجلهم نتيجة تعرضهم للقصف، وأن مكتبة النادي الثقافي المكونة من ثلاثة آلاف كتاب أحرقت عندما قام الاحتلال باستهدافها بصاروخ من طائرة إف 16، في الثلاثين من آذار ٢٠٢٤.
ولأن الفعل الثقافي هو فعل مقاوم لدحض كل كذب وتأويل يمارسه الاحتلال، وهو الجهد الصادق لكشف الحقيقة وتعرية هذا الاحتلال، وفضح كل ما يروج له من ادعاءات باطلة، فقد قام الاحتلال باغتيال عدد كبير من الكتاب والصحفيين والشعراء والفنانين والباحثين، وسعى لردم كل جهد ثقافي في حربه المستعرة الرامية للسيطرة على رواية واحدة يقدمها، بينما يكون لا صوت للضحية، وكل هذا يأتي أيضًا ليصب في نفس السياسة التهويدية للمدن والأماكن المقدسة، وتلاقيًا مع حرب التطهير العرقي في فلسطين .
إن حربًا كهذه الحرب التي تشن بلعنة الإبادة الجماعية على أرض غزة الذبيحة، وسط الحصار المفروض عليها من كل الجهات، وما كشفته من هشاشة النظام الدولي وكل المواثيق والقوانين الدولية، وضعف النظام العربي، في الوقت الذي لاقى فيه الاحتلال كل أنواع الدعم العسكري والمالي والسياسي، ووقفت أمريكا وحلفاؤها إلى جانبه بل وحركت الأساطيل البحرية والجوية، بينما أهل غزة كانوا وحدهم، ولا زالوا وحدهم تحت القصف والجوع ومحاولة البقاء على قيد الحياة. إن أكثر من سبعة عقود من الاحتلال أثبتت أن مسألة الانتصار على الرواية الفلسطينية هي مسألة من العبث تحقيقها، لأنها رواية الحق والحقيقة، ولأن شعبنا في كل المراحل التي مرَّ بها كانت الثقافة هي أساس الفعل المقاوم، ولأنها كانت ولا تزال كذلك، فمن الحتمية أن تنتصر وهي تحفظ حكاية شعب أريد له الشطب والإبادة منذ أن بدأت قوافل الغزاة دخول فلسطين.


.............

عشرات المكتبات العامة تم تدميرها بقصد حرق كل إرث، وعشرات آلاف المكتبات الخاصة دمرت وأحرقت وتناثر رمادها بعد أن طالها القصف المنظم الذي استهدف كل شيء في غزة. كتّاب وشعراء وروائيون ورسّامون ونحّاتون وفنّانون قصفتهم الطائرات في بيوتهم وبين مكتباتهم.