فتحي غبن ورسائل الفن المحارب
"بدي اتنفس يا ناس"، بهذه الكلمات المتقطعة، مختلطة ببكاء ابنته، وصل إلى مسامع وبصائر الكثيرين من أبناء فلسطين والمهتمين بقضيتهم في منتصف فبراير\ شباط 2024، فيديو استغاثة من الفنان التشكيلي فتحي إسماعيل غبن، يناشد بصوته المخنوق، البشر والحجر لإخراجه إلى أي مستشفى خارج قطاع غزة يمنحه فرصة تنفس أخرى لعله يبقى على قيد الحياة فترة أخرى، بعد إخراج جميع مستشفيات غزة عن خدمات الصحة والطبابة.
ومع هذا الفيديو الذي يحرق القلوب، رسالة صوتية من الفنان سليمان منصور في حالته الصعبة أيضاً وبصوته المرهق كثيرًا، يوصي بوجوب تحرك كل من بيده حيلة لإنقاذ فتحي غبن قبل فوات الأوان.
الفيديو أبكى متلقيه، الفنان التشكيلي عيسى ديبي في قطر، الذي استنجد به وطنه للتواصل مع أكبر الكبار للعثور على حل سحري وبأي تكلفة للخروج من معبر رفح الدامي، ديبي أسمع كل من حوله استغاثة الفنان غبن، وحول تلك الرسالة لمن ظن بهم قدرة على فعل أي شيء مع استعداده لدفع النفقات الباهظة لإخراج المريض من رفح في ساعات الحرب المسعورة على غزة، ولكن بدون أي جدوى.
فتحي غبن الذي يمتد بين نكبتين، المولود سنة 1947 في قرية هربيا التي تمتد بين أراضي الخصاص والجورة شمالاً وبيت لاهيا جنوباً، والذي لجأ به أهله من ريف غزة إلى مدينة غزة، شب وشاب في غزة التي وصلها رضيعاً قبل ستة وسبعين سنة، تكفي لأن يشيب فيه الطفل بدون نكبات.
لكنه أفاق على حديث والده ووالدته، وحديث جديه وجدتيه، وحديث الكثير من أهل قريته وهم يقصون على بعض، كيف تسللوا من غزة ليلاً إلى بيوتهم قبل هدمها، وأحضروا ما أمكن من قمح وحبوب أخرى على ظهورهم أو على دواب لهم أو مستأجرة، إذن لقد شب الفتى على صور متخيلة، فأصبح الخيال عنده صنوا للحقيقة، ولعل الخيال يفوق الحقيقة وسعاً في مرات كثيرة، وهذا ما يحدث مع أطفال الفقر والحرمان، فما يكون في خيالهم، دائماً أوسع مما هو في أيدي المترفين وأبناء المترفين. هكذا درج فتحي غبن خطواته الأولى في حارات مخيم جباليا، قبل وبعد أن شقت وكالة الغوث قنوات المجاري المكشوفة الضيقة، ووضعت على مسافات منتظمة حنفيات وصنابير المياه كي تُنسي اللاجئين عيون الماء العذب التي تلاصق كل قرى ومدن فلسطين بدون استثناء، ومن المؤكد أنه شم رائحة صابون الوكالة الأصفر الفاقع المنفر لحاسة الشم وباقي الحواس.
ربما أكل فتحي غبن بشهية أو بدون شهية من خبز طحين وكالة الغوث، الناصع البياض إلى درجة الشك أنه دقيق قمح، ذلك الطحين المُهدى من الولايات المتحدة لتلك الهيئة الدولية الشهيرة "الأونروا"، التي تم تأسيسها على عجل للتقليل من آلام النكبة ومحاولة مسح ما أمكن من آثار جريمتها أكياس الطحين تلك، كُتب عليها "هدية من شعب الولايات المتحدة الأمريكية"، وتحولت هذه الأكياس إلى ملابس داخلية للأطفال وبعض الكبار أيضاً، وظلت كل قطعة منها تحتفظ بحرف أو حرفين أو باقي مكونات إحدى كلمات العبارة، ناهيك عن باقي مخصصات التموين من فول وزيت وأرز وكلها "نفل منفول"، وعلى المستلم أن يحضر معه أكياس وأوعية لاستلام المعلوم بعدد الأنفار بعد إبراز بطاقة المؤن، والتي تزاد ثقوبها كلما استلم حصة أو مخصص.
ذاك الفنان الفلسطيني الذي انتقل إلى جوار ربه وهو على أبواب الثمانين، في سيرته التي تقص علينا أخبار ثمانين سنة من عمر فلسطين، الفنان فتحي غبن الذي بدأ مشاركاته في معارض القطاع وباقي الوطن، ثم حملته لوحاته إلى المدن والعواصم في عالم العرب وعوالم أخرى، حتى وصلت به إلى اليابان ليفوز بجائزة هورشيما، التي تخلد أم الجرائم بحق الإنسانية على أيدي طيارين أمريكان منهم الرئيس جورج بوش الأول، الذي لم يطالب أحد بمحاسبته على جرائم الإبادة فوق الجماعية.
رسم فتحي غبن لوحاته بأفقر الأدوات وأرخص المواد، ليقدم لوطنه ولهذا العالم أروع اللوحات، كما قدمت غزة لأمتها أكبر المفاجآت من صفر موارد. رسم بالفحم، وشكل من الطين، ومنه نحت كما نحت من الصخر، كي يصبح الفنان والنحات، ثم تفوق على الفن بالأدب في تسمية اللوحات، حتى أصبح لا مثيل ولا شبيه له في العنونة والبراعة في تسمية اللوحات، كما يبدع الرواة في تسمية الرويات.
مى لوحة باسم اللوز، واسم الورد، وأعلن عن حبه للورد، ثم أردف لكنا نحب القمح الأكثر، لإظهار التواضع في المقارنة بين الكمالي والضروري، كأنه كان يخشى يوما يأتي على الناس لا يجدون فيه خبزا، ولا يجدون ماء للشرب، فيتركون الورود تموت خلفهم من العطش، كي يسقوا أطفالهم بقايا الماء في آخر الأواني قبل أن يصبح الكل تحت الركام.
ثم انتقل إلى تسمية لوحاته بأسماء لا تموت، منها معارك بيروت، ولوحة لن تمروا، ولوحة عتاد البيت، والشموخ، حتى وصل إلى لوحة سماها فلسطين، وكأنها بيدر حبوب يمتلئ بالناس والزرع ليقول للدنيا: كل هذا الخصب في وطني المقدس، الذي لا يعرف القحط ولا يخضع للجفاف.
في قطاع غزة اليوم، ما يقارب من مليونين ونصف المليون فلسطيني ينزفون ويجوعون، وعشرات الآلاف من الجرحى ومرضى السرطان وأصحاب الفشل الكلوي، والأطفال الخُدج، لا يجدون الطعام ولا اللباس ولا الماء ولا الدواء ولا منازل ولا خيام، ولكنهم يجدون الهواء الذي يكفي للتنفس بدون أنابيب الأكسجين فهل يريدون أكثر!
عن فتحي غبن يقول وزير الثقافة الفلسطيني، عاطف أبو سيف: "إن غبن عاش حياة المخيم بكل تفاصيلها، وعبر عنها بصدق، وخلد حياة القرية الفلسطينية، ومواسمها بدقة متناهية، فرسم الحقل والبيدر والعرس والحصاد، ورسم البيوت والوجوه والطرقات، وحمل كل ذلك إلى العالم أجمع عبر ريشته البارعة".
في منتصف السبعينات زاره في مخيم جباليا التشكيليان نبيل عناني وسليمان منصور بقصد إنشاء رابطة للفنانيين التشكيليين في فلسطين، فاستقبلهما باهتمام، لكنه ومن منطلق أن هذا النوع من الفن عليه أن يكون فناً محارباً ومتصدياً للعدو، وأن مثل تلك الرابطة قد تجر على الفنانيين عقابًا شديداً من جانب العدو، رفض الانضمام لتلك الرابطة في البداية! واستغرب الزائران وقتهما طرح المضيف، لكن فيما بعد تبين لهما كم كان زميلهما صاحب حدس في استشعار مكائد العدو.
فجع الفنان غبن قبل وفاته بتدمير منزله فوق أعماله الفنية، وفجع باستشهاد الابن والشقيق وثلة من أقرب المقربين له، فمات محزوناً من حجم الكارثة التي أصابت من حوله عموماً وأصابته خصوصاً، في صحته منعه الاحتلال من السفر بسبب لوحة الهوية التي تنبأ فيها بإرهاصات الانتفاضة الأولى، وفي مرضه منعه الاحتلال من السفر حتى مات مخنوقاً من قلة الأكسجين، الذي يلزم المخ والدورة الدموية، وباقي وظائف أعضاء الجسد، رحل الفنان بعد أن أهدى لوطنه رسائل فن جادة وحارقة ومهاجمة للاحتلال.