تمكين بلا تمكين... ذاكرة في طابور الانتظار!
أمين الحاج
أمين الحاج
لا شيء يثير الغضب أكثر من تحول المبادئ إلى تعليمات إجرائية، والخطاب الوطني إلى لغة إدارية حذرة، تحاول الالتفاف حول الحقيقة بدل مواجهتها، فملف الأسرى كان يوما نقطة إجماع نادرة في المشهد الفلسطيني، ليس مجرد بند مالي، بل رمز صمود وذاكرة نضالية، قيل عنه خط أحمر، ثم صار قابلا للتفاوض، قبل ان يستقر في مساحة رمادية تتوزع بين نماذج تسجيل ومواقع الكترونية تتعثر، المشكلة ليست في الصندوق ذاته، ولا في فكرة تنظيم الصرف، بل في طريقة الانزلاق الخطابي، فلا اعتراف واضحا، ولا مصارحة، فقط محاولات لترتيب المشهد بضجيج أقل، وكأن الشارع لا يقرأ ولا يتابع.
السؤال اليوم هو، هل هذا الالتفاف "الذكي"، كما يظنه البعض، سيجنب السلطة الضغط؟ ام انه مجرد مقدمة لقائمة أطول من الطلبات التي لن تتوقف أو تنتهي؟ التجربة الطويلة مع الاحتلال لا تحتاج إلى الكثير من العبقرية لتوقع الخطوة التالية، تاريخيا، كل تنازل قاد إلى تنازل آخر، وكل انحناءة فتحت الباب لانحناءة أشد، وان التراجع نادرا ما يتوقف عند محطة واحدة، اليوم يدور الحديث عن مخصصات الشهداء والأسرى والجرحى، وغداعن المناهج، وبعد غد عن الرموز الوطنية، ثم التاريخ، حتى نصحو يوما على واقع أشد مرارة، واقع يريد من الفلسطيني ان يكتب تاريخا بلا وطن، ويحتفل بمن رحلوا عنه، ولكن بخجل، او بصمت على الأقل.
الاحتلال لا يعترض على شكل الصرف فقط، او الآلية، او قيمته، بل على فكرة وجود مخصصات اساسا، وعلى رمزية التكريم، وعلى كون الأسير ليس عبئا، بل عنوانا لقضية وتاريخ نضالي ممتد، فالاحتلال يعارض الجوهر، لا الشكل، وبالتالي فان نقل الملف من طاولة الحكومة إلى "تمكين"، لا يلغي- في نظره على الأقل- فكرة ان هؤلاء الأسرى قاتلوه يوما، ولا يجعل من أسر الشهداء حالات اجتماعية، فالضغط سيستمر طالما ان الذاكرة حية، وطالما ان اسم فلسطين لم يتحول إلى "مجاز تاريخي"، او كالحضارات القديمة التي تدرس، او أسماء الدول التي لم تعد موجودة الا في الكتب، ومهما رق الكلام، وغلف بالخطاب السياسي، سيجد الاحتلال دائما مبررات جديدة؛ بند هنا، صورة هناك، فقرة في كتاب التاريخ، احتفال بذكرى مقاوم، وحتى ان النشيد يمكن ان يصبح ذريعة.
هنا لا نتحدث عن نوايا، بل عن بنية "صراع" اتسم دائما بالتصعيد، من المناهج إلى الرموز إلى أشكال الاحتفاء التاريخي، ظلت المسائل معرضة لإعادة نظر متكررة كلما سنحت الفرصة، ما يعني ان التغيير في طريقة الصرف قد يكون محطة أولى في مسار أطول من المراجعات، ما دام الجوهر قائما، ذاكرة جماعية تحيي اسما وصوتا وحكاية لا يريد الاحتلال رؤيتها في الواجهة العامة.
في العمق، فان ما يجري هو اختبار حقيقي لمدى قدرة السلطة على الاعتراف المباشر بصعوبة "المعركة"، بدل تغليفها بعبارات تقنية، الشارع عموما ليس ضد الحسابات الواقعية، بل ضد تغييبهم عن القرار، من حق الجمهور ان يعرف ان هناك ضغوطا قاسية، وان الدعم مهدد، ان هامش الحركة يضيق.
هل سيمنح هذا التكتيك السلطة "هدنة" مع الانتقادات؟ ربما قليلا، او مؤقتا، لكنه لن يحميها طويلا امام حقيقة ابسط من كل التفاصيل؛ فالاحتلال لا يريد الحضور الفلسطيني، بل يريد غيابه كليا، يريد خطابا منزوع الروح، وتاريخا بلا ذاكرة، يريد جيلا لا يعرف من حمل السلاح، او لماذا حمله، وكل محاولة لتجميل الواقع عبر تغيير المصطلحات هي مجرد تأجيل للحظة مواجهة الحقيقة او الصدمة.





