استراتيجيات إدارة ترامب: من الداخل المنقسم إلى الخارج المُرتبك
بروفيسور عوض سليمية : باحث في العلاقات الدولية
استراتيجيات إدارة ترامب: من الداخل المنقسم إلى الخارج المُرتبك
بروفيسور عوض سليمية
باحث في العلاقات الدولية
الخطاب الشعبوي الذي اعتمده ترامب خلال حملته الانتخابية وسياسة شحن البطاقة الوطنية تحت شعارات "امريكا أولاً" وعبارات " لنجعل أمريكا عظيمة مرة اخرى" MAGA، يبدو انها لم تعد صالحة لتحقيق ما شُيد عليها من وعودات انتخابية للقاعدة الشعبية، التي سئمت السياسات التقليدية التاريخية للحزبين الاقوى الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة.
دخول ترامب للبيت الابيض محمولاً على 58% من اصوات المجمع الانتخابي ومدفوعاً بــ 49.81% من اصوات الناخبين، وحيازة حزبه MAGA على اغلبية مقاعد مجلسي الشيوخ والنواب، كانت بسبب الارث الاقتصادي المتعثر والسياسات المرتجفة التي ميزت حقبة سلفه بايدن. ترامب استغل هذه الظروف وقدم رؤية اقتصادية طموحة، وتعهد بـــ، تحسين الاقتصاد سريعاً، خفض معدلات البطالة، عودة مزدهرة للوظائف، فتح المجال امام ريادة الاعمال للطبقة الوسطى كما لم يحدث من قبل، وانقاذ امريكا للعودة الى مكانها الطبيعي في قيادة العالم.
عند اول اختبار للوعود الانتخابية، بدأت الفجوة بين شعارات حملة ترامب الانتخابية "أمريكا أولاً" -الذي يعكس توجهاً انعزالياً، وبين ايديولوجيته الراسخة "لنجعل أمريكا عظيمة مرة اخرى" – السعي نحو التوسع والهيمنة، تتسع حد التضارب بين النهجين. ورغم محاولاته استلهام نماذج تاريخية تجمع بين اثينا الديموقراطية، واسبارطة الاستبدادية المختلطة، والجمع بينهما في نموذج جديد يمكن ان نسميه "ديموقراطية...الولاء للملك"، إلا أن هذه السياسات أظهرت تحديات كبيرة على مستوى الحريات الفردية وأثارت جدلاً حول مركزية السلطة في صنع القرار.
كانت أحدث نسخة تعبر عن حالة الغضب الجماهيري من سياسات ترامب الداخلية، هي فوز زهران ممداني – الشعبوي اليساري، لمنصب عمدة نيويورك على الرغم من الحملة الشرسة التي قادها ترامب ضد المرشح ووصفه في أكثر من مناسبة بـ "الشيوعي" و "الفاشل". ومع ذلك، لم يتوقف غضب الناخبين الامريكيين على صندوق ممداني، بل امتدت الخسارات لتطال حكام ولايتي فرجينيا ونيوجيرسي الجمهوريين؛ وفاز الديمقراطي جاي جونز في انتخابات منصب المدعي العام لولاية فرجينيا؛ فيما يمكن اعتباره استفتاءً مبكراً على سياسات ترامب.
حالة الغضب الجماهيري تجاه سياسات ترامب لم تكن ردة فعل عابرة، بل كانت نتاج سلسلة من السياسات التي اثارت جدلاً واسعاً في الشارع الامريكي، من بينها، تواصل ارتفاع هرم الديون الذي تجاوز 37 تريليون دولار بزيادة قدرها 2.17 تريليون عن العام الماضي، العجز الهائل في الموازنة للسنة المالية 2024-2025 والذي بلغ قرابة 1.8 تريليون دولار، طبقاً لأرقام الخزانة الامريكية؛ قمع الحريات والتعبير عن الرأي، مهاجمة المتظاهرين في الجامعات والساحات العامة والشوارع، الاعتقالات والغرامات المالية، دفع قوات الحرس الوطني الى عدة ولايات وجامعات، التهديد بقطع التمويل الفدرالي عن بعض الولايات والجامعات والمؤسسات التي تخالف سياسات الادارة، سياسات التهجير والطرد بحجة الاقامة غير الشرعية، الانفاق الحكومي الخارجي الزائد، علاوة على ذلك، تسبب الإغلاق الفدرالي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة في تعطل العديد من الخدمات الحيوية، مما زاد من معاناة المواطنين.
ارقام ترامب سيئة حتى في القضايا التي شكلت محور حملته الانتخابية، ويبدو ان شهر العسل مع الناخبين والمؤيدين بدأ ينقضي سريعاً. في أحدث استطلاع للرأي اجرته شبكة NBC News، ونُشرت نتائجه بتاريخ 2 تشرين ثاني/نوفمبر، اجاب حوالي 66% من الناخبين المسجلين إن إدارة ترامب فشلت في مجال الاقتصاد وتكلفة المعيشة، وانه فشل في تغيير الوضع الراهن في واشنطن. وعبر 55% من الناخبين عن عدم رضاهم عن اداء ترامب في وظيفته كرئيس. وفقًا لتحليل مجلة الإيكونيميست بتاريخ 8 نوفمبر/تشرين ثاني، فإن أكبر تحول عن ترامب كان بين الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا. كما انخفضت تقييماته بين الأمريكيين من أصل إسباني والأمريكيين السود والأمريكيون البيض.
لم تكن السياسة الداخلية لإدارة ترامب اقل تعثراً من سياساته الخارجية. لقد صمم ترامب سياسة خارجية قائمة على ردات الفعل دون دراسة العواقب، وكانت سياسة فرض الرسوم الجمركية التي وصلت الى ارقام فلكية على معظم السلع العالمية، ذات مردود عكسي تماماً على الاقتصاد الامريكي، وضربت حالة الثقة السائدة بين الولايات المتحدة وأقرب حلفائها عبر العالم وخاصة دول الاتحاد الاوروبي. كما وسعت الفجوة مع الخصم التاريخي وعملاق آسيا الاقتصادي، وهنا بكين، التي ردت على الرسوم الجمركية برسوم مماثلة، وضربت عصب الاقتصاد الامريكي، الامر الذي اضطر ترامب للتراجع تحت ضغط المستثمرين والمواطنين الامريكيين.
بالمقابل، لم تُقنع قمة الاسكا الباردة القيصر بوتين بوجود نوايا حسنة لدى ترامب تجاه بلاده، وباشر بتسخين الاجواء بطاقة نووية، مع إطلاق تجارب صاروخية غير مسبوقة؛ ليرد ترامب بإصدار تعليماته بالعودة الى اجراء اختبارات نووية، دون المستوى الحرج في محاولة منه لاستعادة التوازن، بالتزامن قام بطرح افكار على كل من بكين وموسكو لنزع الاسلحة النووية.
ترامب الذي يتفاخر بإطفاء الحرائق على ثماني جبهات عالمية مشتعلة، لديه مزيد من اعواد الثقاب ويهدد بإشعال الحرائق في مناطق جديدة. هذه المرة، في البحر الكاريبي حيث فنزويلا، بحجة انها مركز عالمي لتوزيع المخدرات، ويهدد رئيسها مادورو بأن ايامه "باتت معدودة". وينتقل الى افريقيا، حيث هدد نيجيريا بشن عمل عسكري ضد نظام الحكم فيها تحت مبررات الدفاع عن المسيحيين. مع احتفاظه بحقه الدستوري في منع منح اوكرانيا صواريخ توماهوك القادرة على الوصول للعمق الروسي عاد ترامب من جديد ليقول انه "قد يغير رأيه". فيما يهدد الصين بشكل مبطن في حال فكرت بضم تايوان لسيادتها، شي يدرك "العواقب" في حال هجوم بلاده على تايوان.
في سياق مماثل، ردت الهند على طلبات ترامب بالامتناع عن شراء الغاز الروسي، بعبارة "مصالحنا اولاً". ورفضت رئيسة الوزراء اليابانية تاكايشي، طلب ترامب بحظر الطاقة الروسية، في ظل اعتماد اليابان الكبير على هذا المصدر الحيوي للطاقة. هذا الموقف كرره عدد من قادة دول الاتحاد الاوروبية وفي مقدمتهم هنجاريا، باعتباره وصفة صحيحة لانتحار اقتصادي جماعي لدول الاتحاد.
تواصل خيبات الامل من سياسات ترامب امتدت على الساحة العالمية، حيث واصلت الارقام هبوطها المتسارع، وانخفضت التقييمات إلى مستويات سلبية للغاية. تشير بيانات استطلاع الرأي الجديد الذي أجراه مركز بيو للأبحاث في 24 دولة. حصول الرئيس ترامب على تقييمات سلبية في الغالب، وأعرب أكثر من نصف السكان في 19 دولة من هذه الدول عن عدم ثقتهم في قيادة ترامب للشؤون العالمية. كما اعربت الأغلبية في معظم البلدان عن ثقتها المحدودة أو انعدام ثقتها في قدرة ترامب على التعامل مع قضايا محددة، بما في ذلك الهجرة، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، والعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، والمشاكل الاقتصادية العالمية، وحروب اسرائيل في المنطقة، الى جانب تغير المناخ.
تشير نتائج الانتخابات الأخيرة واستطلاعات الرأي المتعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية لترامب، إلى تغير في مزاج الناخب الامريكي والمراقب الدولي، ويبدو أن الضجيج الخطابي والتعهدات بنشر السلام لم تحقق النتائج المرجوة بل جاءت بنتائج معاكسة للتوقعات. المؤشرات حتى تاريخه تشير إلى احتمال فقدان حزب ترامب (MAGA) للأغلبية داخل الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي المُقبلة، كمقدمة لطي صفحة ترامب السياسية دون أن يترك خلفه نموذجاً يُحتذى كأثينا الديمقراطية، ولا منظومةً صارمة كقواعد اسبرطة العسكرية. فقط إرثاً مرتبكاً يتراوح بين الاستعراض والارتجال ثم التراجع، بلا معالم واضحة سوى كونه عابراً صاخباً في سجل السياسات الشعبوية العالمية.





