"شبيبة فتح في غزة.. حين يولد الأمل من قلب الخراب"

بقلم أحمد دخيل

نوفمبر 1, 2025 - 08:29
"شبيبة فتح في غزة.. حين يولد الأمل من قلب الخراب"

"شبيبة فتح في غزة.. حين يولد الأمل من قلب الخراب"

بقلم أحمد دخيل

بين أناملَ تمسكُ بالحجرِ وتنحتُ منهُ زهرةً، وتحت شفاهِ الدخانِ التي تلفظُ أنفاسَها الأخيرةَ لتُنبِتَ في العقولِ بذورَ يقينٍ جديدٍ، تكتبُ غزةُ قصتها. ليستْ قصةَ أنقاضٍ تئنُّ تحت وطأةِ الذاكرة، بل سيرةَ حجرٍ يتحولُ في كفِّ طفلٍ إلى ريشةٍ ترسمُ على جبينِ الزمنِ وجهَ الغدِ.

في جامعةِ الأزهرِ، حيثُ الزجاجُ المحطمُ يشبهُ نجوماً سقطتْ من يديِ الليلِ ليحملها الطلبةُ مشاعلَ في دروبِ المعرفةِ، لا نسمعُ صوتَ المُدرِّجِ وهو يهمسُ بحكمةِ الأجدادِ فحسب، لكننا نرى العزيمةَ تتسلقُ الجدرانَ المدمرةَ كالياسمينةِ المتشبثةِ بحجرِها. التسجيلُ هنا تعدّى كونه أوراقٍ تتراصُّ، فهو موكبُ النهضةِ الذي يسيرُ على أقدامِ الطلبةِ، كلُّ طالبٍ منهم يشبهُ فلسطينَ: صغيرةً في جغرافيا الأعداء، عظيمةً في جغرافيا العقولِ.

لقد حاولتُ أن ألثم الجرحَ على شاشةِ التلفاز ، فاكتشفتُ أن الجرحَ هنا ما كان مكاناً للبكاءِ، إنّه منصةٌ للانطلاقِ. في عيونِ شابٍّ في العشرينِ من عمره، يحملُ تحتَ إبطهِ استمارته وفي قلبهِ جرحُ استشهادِ أبيهِ، رأيتُ المعادلةَ التي لا تُحلُّ في جامعاتِ العالمِ: كيفَ يتحولُ الألمُ إلى طاقةٍ، والدمُ إلى حبرٍ، والموتُ إلى حياةٍ؟

الفرقُ بين منهجينِ هنا ليس جدالًا سياسيًّا، هو الفرقُ بين صوتِ الرصاصةِ التي تموتُ في جدارٍ، وصوتِ الكتابِ الذي يخلدُ في عقل.
 الأولُ يبني وطناً من ظلالِ الغبارِ، والثاني يبني وطناً من ضياءِ البصائرِ. إنها معركةٌ بين من يريدونَ لفلسطينَ أن تكونَ متحفاً للشهداءِ، وبين من يصنعونَ منها جامعةً للأحياءِ.

في غزةَ، حيثُ كلُّ حجرٍ يحملُ ذكرى شهيدٍ، وكلُّ كتابٍ يحملُ حلمَ مقبلٍ، نجدُ الفلسفةَ التي لم تُكتَبْ في جامعةِ هارفارد: "أن تكونَ يعني أن تخلقَ من جرحِكِ جناحاً، ومن حطامِكِ سُلّماً". إنهم لا يدرسونَ ليكتسبوا مهنةً، لكن ليكتسبوا معنىً يجعلُ من حياتِهم إجابةً على سؤالِ الموتِ.

لقد شاهدت مقطع فيديو لأحد الطلبة:
حينما سُئل لماذا تأتي إلى هنا رغمَ الخطرِ؟ فنظرَ إلى كوم ركام قريب وقال: "لأنَّ عدويَّ يريدُني جثةً، فأردتُ أن أكونَ فكرةً". هذه هي المقاومةُ الحقيقيةُ: أن ترفضَ أن تكونَ رقماً في سجلِّ الشهداءِ، وتصرَّ على أن تكونَ رقماً في سجلِّ العلماءِ.

غزةُ اليومَ لم تعد  شاهدًا على الصمودِ فقط، فقد صارت مختبرًا لإثباتِ نظريةٍ إنسانيةٍ جديدةٍ: أن الحضارةَ لا تُبنى بالأسمنتِ و الحجارة، لكنها تبنى بالإرادةِ التي ترفضُ أن تنكسرَ. إنهم لا يملؤون قاعاتٍ دراسيةً فحسب، هم يسطرون أسطورةً ستُروى للأحفادِ: كيفَ كان أجدادُهم يصنعونَ من ركامِ الحروبِ مدارجَ للعلمِ، ومن دويِّ القنابلِ أناشيدَ للصبرِ و البقاء.

في الختام، غزةُ لا تُقاسُ بمساحتها الجغرافيةِ، تقاس بمساحةِ أحلامِ أبنائها الذين يعلمونَ أن حريةَ الأرضِ تبدأُ بحريةِ العقلِ. إنهم يكتبونَ فصلَهم الجديدَ بغيرِ الدم، إنما بالمدادِ، مؤمنينَ أن البندقيةَ وحدها لا تحررُ الأ