لماذا يتميّز موقف إسبانيا في دعم فلسطين؟
بعد سنوات من التماهي مع الموقف الأوروبي في موضوع القضية الفلسطينية، شهدت السياسة الخارجية الإسبانية تحولا نوعيا أكثر استقلالية وفاعلية تجاه أزمات الشرق الأوسط وفي مقدمتها الموضوع الفلسطيني.
وقد تمت ترجمة هذا التحول في كثير من الإجراءات العملية شملت تعزيز المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، والضغط داخل الاتحاد الأوروبي لتبني مواقف أكثر صرامة، وحظر دخول شخصيات إسرائيلية تعتبرها مدريد مسؤولة بشكل مباشر عن حرب الإبادة والدمار التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
التحولات في السياسة الخارجية الإسبانية تجاه القضية الفلسطينية والعوامل التي أدت إليها، كان موضوعا لدراسة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية تحمل عنوان 'إسبانيا وغزة.. قراءة في الدوافع الإستراتيجية والانعكاسات الإقليمية'.
الدراسة التي أعدتها الباحثة في المركز مرام ضياء سلّطت الضوء على السياقات التي جاء فيها هذا التحول، ثم استعرضت الدوافع الداخلية والخارجية التي ساهمت في ذلك.
تحول إستراتيجي مع اندلاع حرب غزة 2023، اتخذت إسبانيا مسارا خاصا داخل الاتحاد الأوروبي، ففي حين تبنت عواصم غربية كبرى خطابا تقليديا يؤكد 'حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها' مع غض الطرف عن الانتهاكات بحق المدنيين، اختارت مدريد النأي عن هذا الإجماع الضمني حيث نددت على لسان رئيس وزرائها بيدرو سانشيز بالقتل العشوائي للمدنيين.
وبعد ذلك، انخرطت إسبانيا في قيادة كتلة أوروبية تقدمية ضمّت أيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا وغيرها، طالبت بوقف إطلاق النار وزيادة المساعدات الإنسانية بدلا من الاصطفاف التام مع الموقف الأمريكي والبريطاني.
ومنذ نهاية 2023، اتخذت إسبانيا على الصعيد العالمي إجراءات ملموسة للمساعدة في أزمة غزة، إذ أعلنت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 تعليق جميع صادراتها العسكرية إلى تل أبيب.
وتُوج هذا الإجراء في سبتمبر/أيلول 2025، حين أقرّ مجلس الوزراء الإسباني مرسوما ملكيا يُضفي الطابع القانوني والدائم على الحظر، ليشمل جميع أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية الموجهة للاحتلال الإسرائيلي.
وكان مجلس النواب الإسباني قد صوّت في مايو/أيار 2025 على اقتراح غير ملزم يدعو إلى فرض حظر أسلحة شامل على إسرائيل، وزيادة الدعم الإنساني لغزة، وتعزيز الأدوات القانونية الدولية لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
ولم يكن هذا التحول في السياسة الخارجية الإسبانية تجاه فلسطين موقفا عشوائيا، بل نتيجة لدراسات وأفكار قدّمتها مراكز بحثية مرموقة لها دور في رسم السياسات من أهمها معهد 'إلكانو' الملكي الذي أصدر توصيات تصب في التوجه نحو دعم القضية الفلسطينية.
ويلاحظ أن هذا التحول له مقدمات سبقت حرب غزة الأخيرة، إذ إن الحكومات المعاقبة في مدريد منذ سنوات تبحث فكرة الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة لدفع عملية السلام، وبقيت مطروحة لعقد من الزمن قبل أن تنضج ظروف تنفيذها في 2023 وما بعدها.
يعتبر التحول في الموقف الإسباني تجاه غزة وفلسطين تطورا بارزا، يدور بين محددات داخلية ترتبط بالبنية السياسية والرأي العام الوطني، وبين معطيات خارجية فرضتها الحرب وتوازنات الاتحاد الأوربي والساحة الدولية.
أولا: عوامل داخلية 1- التوجه الأيديولوجي للحكومة منذ أن تولّى رئيس الوزراء بيدرو سانشيز قيادة الحكومة الاشتراكية عام 2020، تبنّى مواقف مناهضة لجميع أشكال الاستعمار، وبدأ فريقه في مناصرة القضية الفلسطينية، حيث وصفت وزيرة الشؤون الاجتماعية آنذاك إيوني بيلارا في أكتوبر/تشرين الأول 2023 عمليات إسرائيل في غزة بأنها 'ترقى إلى إبادة جماعية' ودعت إلى فرض عقوبات عليها ومحاكمة نتنياهو بتهم جرائم حرب.
وقد ساهمت المواقف الداخلية في إسبانيا في توجيه رئيس الوزراء إلى الدفع بمطالب حكومته إلى العلن وتبني مواقف أكثر صرامة ضد الكيان الإسرائيلي.
2- الرأي العام الإسباني وقد كشفت دراسة حديثة لمعهد إلكانو الملكي في مايو/أيار 2024 أن 78% من الإسبان يؤيدون اعتراف الدول الأوروبية بدولة فلسطين، وهذه الأغلبية تشمل أنصار جميع الأحزاب الكبرى في البلاد.
كما يبدي الشارع الإسباني تعاطفا تقليديا مع معاناة الفلسطينيين، إذ تتصدر إسبانيا بانتظام الاستطلاعات الأوروبية من حيث دعمها لحقوق الفلسطينيين وإدانتها للاستيطان الإسرائيلي.
3- الإرث التاريخي والعلاقات مع العالم العربي بخلاف العديد من الدول الأوروبية، تتمتع إسبانيا بخلفية تاريخية مميزة في سياستها الشرق أوسطية، حيث تأخرت في الاعتراف بدولة إسرائيل حتى عام 1986 (كانت آخر دولة في أوروبا الغربية تقوم بذلك).
وخلال حقبة الجنرال فرانكو (1939-1975)، وجدت إسبانيا المعزولة عن المعسكر الغربي نفسها منفتحة على تحالفات بديلة مع الدول العربية، فنسجت علاقات وثيقة مع دول مثل مصر والسعودية والمغرب لتعويض العزلة الأوروبية.
ورغم أن إسبانيا حاليا من صميم الاتحاد الأوروبي، فإن إرث الانفتاح على العالم العربي خلّف تعاطفا ضمنيّا مع القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية، كما أن العلاقات التاريخية بين إسبانيا والعالم الإسلامي أسهمت في تشكيل رؤية أكثر تفهما للقضايا العربية مقارنة ببقية الشركاء الأوروبيين.
ثانيا: عوامل خارجية 1- حرب غزة جاء التحول الإسباني الجديد مدفوعا بحرب غزة التي خلفت أزمة إنسانية غير مسبوقة فرضت على العديد من العواصم الأوروبية مراجعة مواقفها السابقة التي كانت تدور حول مقولة 'حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها'.
2- الانقسام الأوروبي أظهرت الحرب على غزة أن المواقف السياسية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ليست متناسقة، إذ برز الانقسام بين تيارين، أحدهما داعم لإسرائيل تقوده ألمانيا والنمسا والمجر، والآخر مناهض لها تتزعمه إسبانيا وبلجيكا.
وبحسب تحليلات من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن مواقف مدريد حالت دون انجراف الموقف الأوروبي بالكامل نحو الانحياز لإسرائيل، وأسهمت في الحفاظ على حد أدنى من التوازن يعزز مصداقية الاتحاد في نظر الرأي العام العالمي.
3- العزلة الغربية جاء الموقف الإسباني مبكرا استجابة لإدراك متزايد بأن المعسكر الغربي بات معزولا في موقفه من القضية الفلسطينية، واعتبرت مدريد أن مواقفها الحادة تجاه تل أبيب النقدية لإسرائيل وسيلة للتأكيد أن أوروبا ليست كتلة متجانسة، بل تضم أصواتا تتبنى القانون الدولي وتتفادى ازدواجية المعايير.
يتضح التقاطع بين الموقفين الإسباني والعربي في عدة أمور من ضمنها: 1- الدعوة إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين: فقد شاركت إسبانيا الدول العربية المطالبة بالتهدئة ووقف نزيف الدم في غزة، ودأب رئيس الوزراء سانشيز ووزير خارجيته خوسيه ألباريس على الدعوة العلنية لوقف القصف الإسرائيلي ورفع الحصار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية دون قيود، وهي الرسائل ذاتها التي تكررها القاهرة وبقية العواصم العربية.
2- التمسك بحل الدولتين والشرعية الدولية: تلتقي إسبانيا مع الدول التي ترى أن الحل الوحيد المقبول هو قيام دولة فلسطينية مستقلة جنبا إلى جنب مع إسرائيل وفق حدود 1967 والقدس الشرقية عاصمة لها.
وأكد سانشيز عند إعلان اعترافه بفلسطين أن الهدف الوحيد من هذه الخطوة هو 'مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على تحقيق السلام' عبر حل الدولتين.
3- الدعم الإسباني وإعادة الإعمار: توافقت إسبانيا والدول العربية كذلك في التركيز على تخفيف معاناة سكان غزة، فعندما قامت دول أوروبية بتجميد مساعداتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إثر ادعاءات بجدل حول موظفيها، بادرت إسبانيا والبرتغال بزيادة مساهماتهما المالية للوكالة عوضا عن ذلك التخفيض، وهي خطوة قوبلت بالترحيب عربيا على اعتبارها انحيازا لقيم المسؤولية الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني.
ورغم القواسم المشتركة بين مدريد والدول العربية تجاه القضية الفلسطينية، فهنالك بعض نقاط الاختلاف، فإسبانيا بوصفها عضوا في الاتحاد الأوروبي تلتزم بتصنيف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منظمة إرهابية وتؤكد رفضها لأفعالها، بينما تتعامل بعض الدول العربية مع حماس كمكوّن فلسطيني واقعي وجزء من الحل.
وانطلاقا من هذه القراءة، يمكن القول إن التحول في الموقف الإسباني نجح في إعادة الزخم للقضية الفلسطينية داخل أوروبا، وفي لفت انتباه العالم إلى أن هناك أصواتا غربية مستعدة للوقوف في صف الحق وعدم مسايرة المحتلين.
ومن الممكن أن تواصل مدريد خلال عامي 2025 و2026 الدفع باتجاه مبادرات أوروبية متوسطية مشتركة لإعادة إعمار غزة، وربما لاستضافة مؤتمر دولي جديد في إطار ما أصبح يُعرف بمحور مدريد الذي رسّخته السياسة الإسبانية الحديثة.





