“الياس خوري .. النور الغائب”

بقلم: د. منى ابو حمدية أكاديمية وباحثة

سبتمبر 21, 2025 - 12:44
“الياس خوري .. النور الغائب”

“الياس خوري .. النور الغائب”

بقلم: د. منى ابو حمدية 

أكاديمية وباحثة 

تمرّ علينا سنة كاملة على رحيل الياس خوري، الروائي العربي الكبير، صاحب القلم الذي لم يهدأ، والذي حمل في حروفه ثقل الحقيقة ودفء الحلم وصرامة الضمير. في ذكرى رحيله الأولى، نستعيد صوته الذي لم يعد يكتب بيننا، لنقرأ إرثه ونستلهم وعيه الأخلاقي والجمالي، ونقف أمام مؤلفاته التي تركت أثرًا خالدًا على القضية الفلسطينية، متسائلين في صمت: ماذا لو كان بيننا الآن؟

قلم الياس خوري… صدى الحقيقة وضوء الروح:

لم يكن قلمه مجرد أداة للكتابة، بل كان مرآة للوجود العربي كله، مرآة للوجع الذي يحمله الإنسان في صمته واندفاعه اليومي. كل سطر ينبض بالحقيقة، وكل جملة تحمل وزن التاريخ . كان القلم عنده ليس وسيلة لتوثيق الأحداث فحسب، بل فعلًا حضوريًا للوجود؛ حضور الإنسان الذي يسأل عن ذاته وعن الآخرين، حضور الروح التي لا تقبل المساومة مع العدالة أو الحقيقة. 

في نصوصه، يتحرك القارئ بين الضحايا والظالمين، بين الحلم والحقيقة، بين الماضي والحاضر الذي يصرّ على تكرار أخطاء التاريخ. لم يكن خوري يكتب ليُسلّي أو ليُخفف الواقع، بل ليجعل من الكلمات مرايا تصعق القارئ، وتدفعه للتأمل والمساءلة. كل عمل ادبي له كان بمثابة رحلة استبطان للنفس، رحلة واجهت الجراح والخيانات والانكسارات، لكنها لم تفقد أبدًا إشراقة الأمل، ولا الحنين إلى الإنسان والعدالة.

قلمه كان الضوء في عتمة الغياب، الجسر الذي يربط بين الألم والفهم، التاريخ والجمال، المأساة والذاكرة. رحيله لم يقطع هذا الضوء، لكنه جعلنا أكثر وعيًا بقيمة صوته، وأكثر إدراكًا لغياب ضمير أدبي كان حاضرًا بكل قوة .

 

الوعي الأخلاقي والجمالي والنقدي:

الياس خوري لم يكن مجرد روائي؛ كان مفكرًا وناقدًا وضميرًا يقظًا. جمع بين الذائقة الجمالية والقدرة على النقد الصارم، دون أن يفقد حسه الإنساني العميق.

الوعي الأخلاقي عند خوري كان صادقًا، متجذرًا في إحساسه بالحق، وإدراكه لمعاناة الإنسان العربي وفلسطين على وجه الخصوص. لم يكتب للعرض أو لتجميل صورته، بل ليكشف، ويفضح، ويعيد للذاكرة الإنسانية ما قد ينسى أو يُمحى.

أما الوعي الجمالي، فكان يسير جنبًا إلى جنب مع الأخلاقي؛ كل كلمة، كل تركيب، وكل مشهد يتحرك بين الجمال والصدق، بين الشعرية والواقع القاسي. كان النقد عنده أداة لفهم العالم، ليس لمهاجمته فقط، بل لفهم أعمق للذات وللآخر، ولإعادة ترتيب الفوضى التي يفرضها التاريخ والسياسة على حياتنا.

الياس خوري صنع من كتاباته مرآة أخلاقية وجمالية، جعل من الرواية درسًا في الإنسانية، ومن المقال منارة للفكر الحر، ومن كل نص دعوة صامتة للوعي والمسؤولية. إذا كان الأدب مرآة للمجتمع، فإن كتاباته كانت مرآة الضمير العربي، الذي لا يموت رغم كل الضغوط والتحديات، ويستمر في الوعي، في النقد، وفي التذكير بأن الإنسان يمكنه اختيار الحق والجمال حتى وسط الخراب.

مؤلفاته وعمقها وأثرها على القضية الفلسطينية:

لقد ترك الياس خوري إرثًا أدبيًا غنيًا، فكل عمل من أعماله نافذة تطل على وجع الإنسان العربي وذاكرته الممزقة.

فمن “أبواب المدينة” (1981)، مرورًا بـ “رحلة غاندي الصغير” (1989) و**“مملكة الغرباء” (1993)، وصولًا إلى رواياته الأحدث “باب الشمس” (1998) و“رائحة الصابون” (2000) و“إنها نائمة” (2007)و"سينالكول” (2012) و" أولاد الغيتو” (2016)، نجد القارئ أمام تجربة سردية ثرية تجمع بين التاريخ والذاكرة والسياسة والوجدان الإنساني.

في رواياته، تتحرك الشخصيات بين الانكسار والأمل، بين النضال واليأس، وبين الحب والفقدان، ما يجعل القارئ يعيش الألم الفلسطيني ويشعر بالهوية الممزقة على مدى الزمن. خوري لم يكتب فلسطين كقضية سياسية فقط، بل كوجع إنساني، كحلم متواصل في وجه الاحتلال والشتات، وكقصة وجودية للإنسان العربي يبحث عن ذاته وكرامته.

عمق مؤلفاته يكمن في قدرته على تحويل التاريخ والجغرافيا إلى مشاعر حية، وتحويل الوجع السياسي إلى تجربة شخصية قريبة من القارئ. كل صفحة تحكي عن فلسطين، عن الشتات، عن صراع الذاكرة والهوية، وتزرع شعور المقاومة من خلال الفن، وتجعل من الأدب وسيلة للحفاظ على الوعي الأخلاقي والجمالي للنفس والمجتمع.

ماذا لو كان بيننا الآن؟

لو كان الياس خوري بيننا اليوم، لكان صوته أعظم وأكثر إلحاحًا، لكان القلم يخط على صفحات الواقع الراهن، يفضح التلاعب بالتاريخ والعدالة، ويحذر من الانكسار واليأس. ربما كان سينقذنا بحضوره الأدبي من ضبابية الأخبار والسياسات، ليعيدنا إلى مركز الإنسان وكرامته وحقوقه.

كان سيكون مرشدًا في زمن يحتاج فيه العرب إلى وعيه النقدي، وجماليته، وأخلاقه، ليقرأوا الواقع بصدق ويستعيدوا الوعي بالمسؤولية الجماعية والفردية. كان سيكون صوت الحقيقة الذي لا يتأثر بالمصالح العابرة، صوتًا يذكّر بأن الضمير لا يموت، وأن الكتابة ليست مجرد كلمات على ورق، بل فعل مقاومة ثقافية ومرافعة عن الحق.

غياب الياس خوري يترك فراغًا عميقًا، ليس فقط في الأدب العربي، بل في الضمير العربي ذاته. لكن كلماته باقية، تنبض في الكتب والمكتبات والصفحات التي حملناها في القلب، تذكرنا دائمًا بأن الأدب الحقيقي يكتب التاريخ من زاوية الإنسان، ويزرع الأمل حتى في أقسى اللحظات. واليوم، ونحن نحيي ذكراه الأولى، نشعر بثقله الغائب، ونعي أن العالم الأدبي والسياسي بحاجة إلى صوته الرصين، وإلى ضمير يقظ لا يعرف الخضوع.

 #منى_ابو_حمدية

#الياس_خوري

صدر اليوم الخميس الموافق 18/09/2025 مقالنا بمناسبة الذكرى السنوية الاولى للراحل الياس خوري 

عبر الاعلام الجزائري بواسطة الاستاذ خالد عز الدين 

فتجدونه ورقيا من خلال : 

- جريدة "الشعب" الجزائر 

الخميس الموافق 18/09/2025

ملحق صوت فلسطين والاسرى

-جريدة "القائد نيوز " الجزائرية 

الخميس الموافق 18/09/2025

-جريدة "الاخبارية" الجزائرية 

الخميس الموافق 18/09/2025

-جريدة "الوسيط المغاربى" الجزائرية 

الخميس الموافق 18/09/2025

-جريدة "الحياة العربية" الجزائر 

الخميس الموافق 18/09/2025

الياس خورى ... النور الغائب