الاحتلال بالوكالة: إدارة غزة كمدخل لتفكيك المشروع الوطني الفلسطيني

تشهد القضية الفلسطينية اليوم منعطفا خطيرا على صعيد طبيعة وأدوات الاحتلال الإسرائيلي، التي لم تعد تقتصر على السيطرة العسكرية المباشرة، بل توسعت لتشمل ما يمكن تسميته بـ"الاحتلال بالوكالة".
في هذا السياق، يُطرح نموذج جديد لإدارة قطاع غزة، يقوم على تسليم الإدارة الفعلية لجهة عربية أو إقليمية، في محاولة إسرائيلية محسوبة لإعادة احتلال القطاع عبر وسطاء، مع إخفاء السيطرة المباشرة تحت قناع إدارة غير فلسطينية.
يمثل نموذج الاحتلال بالوكالة تحوّلا استراتيجيا عميقا في أدوات وأشكال السيطرة الإسرائيلية.
قانونا، يُعرف الاحتلال بكونه سيطرة فعلية من قوة أجنبية على أرض لا تخضع لسيادتها، ولا يغيّر من هذه الحقيقة تحول أساليب السيطرة أو تعديل أدواتها، طالما أن القوة المحتلة تواصل فرض إرادتها على الأرض والسكان من خلال السيطرة الأمنية والسياسية والاقتصادية.
تأتي خطة نتنياهو التي تقترح تسليم إدارة غزة إلى "جهة عربية مسؤولة"، وهي ليست سوى محاولة لإخفاء الاحتلال المباشر وراء إدارة بالوكالة، ما يعكس استراتيجية تحويل السيطرة العسكرية الصريحة إلى هيمنة غير مباشرة.
من الناحية القانونية والسياسية، تُعد هذه المناورة محاولة لإضفاء شرعية شكلية على الاحتلال عبر إشراك طرف خارجي، ما يخلق ازدواجية في الإدارة ويخفي السيطرة الحقيقية التي تمارسها إسرائيل، خصوصا عبر التحكم في المعابر، والموارد، والفضاء الأمني.
هذه الاستراتيجية لا تقلل من المسؤولية القانونية لإسرائيل، لكنها تخلق غموضا يعوق مساءلتها، ويعطل الجهود الفلسطينية والدولية الرامية لوقف الاحتلال وفرض حل سياسي عادل.
أما على الصعيد السياسي، فلا يمكن فصل هذه الخطوة عن محاولة تفكيك المشروع الوطني الفلسطيني الذي يعتمد على وحدة الضفة الغربية وقطاع غزة كمكونين أساسين للنظام السياسي الفلسطيني.
إسناد إدارة غزة لجهة خارجية يعمّق الانقسام الجغرافي والسياسي، ويضعف المؤسسات الوطنية كالسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.
هذا الانقسام المستدام يصب في صالح الاحتلال الذي يواجه صعوبة في فرض هيمنته إذا ما واجه وحدة فلسطينية متماسكة.
وعلى المستوى الإقليمي والدولي، هناك ميل واضح لدى بعض الأطراف لقبول أو التهاون مع هذا النموذج كحل "انتقالي" يخفف التوتر ويُبقي على استقرار نسبي، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقوق الفلسطينية.
هذه القبولات -حتى وإن كانت ضمنية- تسهم في ترسيخ وقائع جديدة على الأرض، وتعيد تشكيل المشهد الفلسطيني نحو إدارة أمنية وسياسية خارجية بدلا من دولة فلسطينية ذات سيادة.
نجاح "الاحتلال بالوكالة" في غزة يفتح الباب أمام تطبيقه بأساليب أخرى في الضفة، من خلال تكثيف الضم الفعلي للأراضي، وفرض إدارة محلية ذات صلاحيات محدودة.
هذا المسار يهدد بإنهاء فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتحويل الصراع إلى مجرد إدارة للسكان والخدمات تحت هيمنة الاحتلال.
هذا النموذج يعزز من تفتيت الجغرافيا الفلسطينية وتحويلها إلى مجموعة جُزر معزولة تخضع لرقابة صارمة على حركة السكان والبضائع.
يمثل نموذج الاحتلال بالوكالة تحوّلا استراتيجيا عميقا في أدوات وأشكال السيطرة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية.