اصبر على الحصرم تأكله عنباً

في الطريق القصير الطويل من مدينة بيت لحم إلى جنوب بيت لحم، وبعد تتبّع نشرات الطرق السالكة والمغلقة، وبعد ليلة ساخنة من القصف الدموي على قطاع غزة، ومداهمات واعتقالات وتخريب لمنازل في مخيم الدهيشة، وخلال الكبت النفسي والتوتر العصبي من هول المجازر والاشلاء المتناثرة، وعلى الجانبين مشاهد المستوطنات التي احتلت الأرض والذكريات، اختفاء أشجار البلوط والرمان والدوالي، رائحة غريبة تفوح من الصخر المحطم وتجريف التربة، لم نصل أنا وصديقي رزق صلاح إلى أرضه الواقعة بالقرب من مفترق عتصيون، الأرض نشفت وتيبست منذ بدأت حرب الإبادة على غزة، لم نستطع أن نقطف العنب ولا أكواز الصبار وأشتال الميرمية، عدنا خائبين نتبادل النظرات الصامتة.
صديقي رزق صلاح الذي لقبتُه وزير الأرض منذ أُفرج عنه من سجون الاحتلال بعد 22 عاماً، استبدل القيد بالمجرفة، هو لا يسكن في الأرض، بل الأرض تسكن فيه، تربطه بأرضه علاقة عشق صوفية، أسمعه يتكلم مع الحصى وحبات الماء والحبوب والتراب والشجرة، ينحني على الأرض يُقبّلها فتبتسم زهرة الأقحوان، يسقي المزروعات بعرقه وملح جسده، ينظر إلى الأعلى وينتظر المطر الأخضر والشمس الدافئة والولادة.
صديقي رزق صلاح مُنع من الوصول إلى أرضه، وتعرض للتهديد والمضايقات المتكررة، يحاصرون أرضه وروحه، ويكاد يختنق وهو يشعر أن السجن لا يزال يلاحقه، هناك سلاسل غير مرئية، اليد حرة لكن الوطن مقيد.
وضع يده على جبينه ونظر إلى البعيد وهو يقول: اصبر على الحصرم تأكله عنباً، والتفت إلى معسكر عتصيون، عشرات المعتقلين المهانين والمعذبين، ربما الصحفي ناصر اللحام كان هناك يذيع تقريراً عن الإبادة المتوارية البشعة خلف القضبان، طائرات في الجو تصب حممها فوق أهل غزة، دوي وحرق وتدمير وقصف، جوع حامض بطعم الموت، اعدامات في السجون وليل وخوف وظلام وصمت.
صديقي رزق صلاح لا ييأس، بين يديه المشققتين تبدأ رحلة الشتاء والصيف، ومن خطاه في الأرض تنبع قصة الخصب، هو شاعر الأرض، سيد التحدي الوديع، وعندما تكتمل الحكاية لا يُدون اسمه، بل يكتفي بأن يرى الحياة تكبر وهذا يكفيه.
اصبر على الحصرم تأكله عنباً، ونقرأ تقرير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الذي رصد أكثر من 11 ألف اعتداء على الفلسطينيين على يد المستوطنين الغلاة خلال النصف الأول من عام 2025، ميليشيات إرهابية ومسلحة تعتدي على الحقول والمزارعين والرعاة، تحرق القرى والمنازل والمزروعات، استشهاد خمسة مواطنين، مئات الحواجز والمعيقات، تجريف المخيمات، إبادة شاملة وسيطرة على الجسد والطبيعة والزمان والمكان، جرائم ممنهجة تمارس بوسائل مادية وعسكرية وإدارية تجعل الحياة شكلاً من أشكال السجن الجماعي، أشعر كأنني أمشي في السجن بلا قضبان، لكنه أضيق من الزنزانة وأرحب من الموت بقليل، لكنه لا يهبك الحياة، يقول صديقي رزق وهو يفترش الأرض سجادة للصلاة.
ونقرا تقرير فرانشيسكا البانيزي مقررة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن اقتصاد الإبادة الرأسمالية الأمريكية والأوروبية الجشعة، شركات الأسلحة والقنابل والطائرات والصواريخ، التي تغتال الإنسان والبيئة والطبيعة في غزة، سماسرة الاستثمار في الموت والمذابح والجماجم والمقابر والتجويع، هنا القيامة بتمويل دولي دقيق، هنا حضارة الجريمة المتوحشة والأسلاك الشائكة.
اصبر على الحصرم تأكله عنباً، نحن لا نزرع الأرض فقط، بل نزرع الصبر في قلب الخراب، ننبت وننمو ونصحو مع أول خيوط الفجر حين لا تزال النجوم عالقة في السماء، فمن يحمل محراثه كمن يحمل رسائل نبوية، ويخط في التربة وعداً إلهياً ورسائل رجاء.
هذه أرضي، الحرية هنا بدأت، وهنا تبدأ، وفي هذا المدى المفتوح على الهوية والروح والندى، خارج معايير الهيمنة والقوة العسكرية والأبرتهايد، سأبقى في أرضي حتى أظل إنسانا، أحمل لواء الحياة وليس لواء الوظيفة، الأرض تتألم، ولكن يجب أن نعيش آلامها لكي نصل إلى المعنى، أن نحمل نبضها وجراحها، ونحرس مخاضها ونصارع العدم.
اصبر على الحصرم تأكله عنباً، ومن يزرع أرضه يملكها، الأرض تسكن فيك فلا تتركها، الأرض هي الأنثى والحبيبة، إلهة الخصوبة في الحضارات الإنسانية، تحتضن وجود الإنسان، الأرض أمك التي قلبها لا يهرم.
الصبر مفتاح الفرج، البذرة هي الحرية المؤجلة، اصبر وقاوم الزمن، الصبر يتحول إلى ثمار، ووعي ومواجهة، الصبر هوية، فمن لا يحتمل مرارة البداية قد لا يصل إلى حلاوة النهاية.
ينادي صديقي رزق صلاح: تعال نرفع الأنقاض وننتشل الجثث، تعال نكتب ونحفر في الطين وليس على الورق، فالدماء الحمراء تقول لنا: ازرعني اليوم واحصدني غداً.
الأرض لا تخون، الأرض لا تموت، الأمل لا يشيخ في قلب الفلاح رزق صلاح، إنه يرى في كل كارثة تجربة، وفي كل مأساة بداية، والفأس في يدك تجذب السحابة الماطرة أحيانا، والفأس تشبه البندقية أحياناً أُخرى، ومن يحمل فأسه هو العابد المتعبد، الصابر الكاهن، المبدع فلاحة وثقافة ومقاومة.
إنني أزرع الأرض كي أستعيد الذات وأنجو من الإبادة وأتحرر، وكلما زرعت أكثر، كلما انقشع الكابوس وتجلت الأرض بجمالها وأغانيها وزهورها، الأرض تحميني من المؤرخين الذين سرقوا عظام الأجداد، الأرض تنقذني من الانهيار أمام آلة السطو وسحق التاريخ والذاكرة.
هل تسمع؟ يسألني صديقي رزق، الأرض تتحرك، تتنفس، الشهداء ينهضون، الينابيع والجرار العتيقة، أياد تخرج من تحت الركام، صوت الأعشاب، الأجساد أشجار، والأشجار كائنات، الأرض تخرج منا إلينا، فمهما كانت هذه الرياح العاصفات الماحقات، فإن النهر يواجه صخور مجراه، بالانسياب والإرادة والثبات.
ازرع الأرض وازرع الغيوم قمحاً وكلمات، وبلغة المحراث، فإن قصفوا البيت والأرض، فلغة الأرض لا تُقصف، وقد يُغيّب الأحبةَ الموت، لكن الحب لا يُدفن.
من يفلح الأرض يكتشف الذهب الروحي والإنساني، يميز بين السراب والحقيقة، بين الزيف والوعي، حين تغربل السنابل وتنفصل الحبة عن القش، الثورة تشبه هذا الغربال، لايبقى سوى الأصل، مهما حاول القش أن يتخفى بين غبار الرماد.
اصبر على الحصرم تأكله عنباً، كل مر حلو، ومن أجل الورد نسقي العليق، ثم وضع صديقي رزق أذنه على الأرض، فسمع قلب غزة يخفق فصرخ: لا تزالت حية بالرغم من كل شيء.
أنا لم أعد أبحث عن المدينة الفاضلة في أحجيات الفلسفة، أنا الآن أبنيها في قلبي حجراً حجراً، أرفض أن أكون مجرد سردية وضحية في الحرب، بل صوت إنساني غاضب ينتظر أن يصرخ، فتعالَ نغرس البذور ونعيد ترتيب الفصول الأربعة، فالألم لا يقتل ولكن يعيد خلقنا من دم وضوء وكرامة.
صديقي الفلاح رزق صلاح ينظر إلى أرضه، يحادثها، يقرأ صمتها كما يقرأ النبي أسراره الموحيات، يعرف متى ترضى، ومتى تحزن، متى تعطش ومتى تشبع ومتى تمنح، يصغي لصوت الماء يسري في العروق، يفهم الإشارات التي لا تدرس في الجامعات، بل تورث في الجسد، في النظر، في العقل والإيمان والتلاوة.
اصبر على الحصرم تأكله عنباً، أنا هنا لا أحمل سلاحاً، بل أحمل بذوراً ومعولاً، الأرض كوشاني ووثيقتي، أنا هنا لن أرحل، فاحمل يا أخي معولك واتبعني، احمل صليبك واتبعني، المحراث يشق التربة نورا وعطاء وهداية، المحراث يكتب في كل أخدود يحفره سطراً في كتاب المستقبل.
ادخل يا أخي إلى جوف الشجرة، كن عشها وقلبها، وانتظر نضوج الثمر وعودة الطيور للسماء، ورقص النحل وحلاوة العسل.
ادخل يا أخي إلى جوف الشجرة، هنا زيت زيتون يقاوم الزمن، لكل شيء أوانه، والأرض لا تُخيب من يبحث في أعماقها عن الأمل.
اصبر على الحصرم تأكله عنباً. الأرض ليست فقط التي نعيش عليها، الأرض هي التي ننتمي إليها عشقاً وهوية، قمحاً وحرفاً في فم التاريخ والقصيدة.
الأرض ليست تراباً فقط، الأرض طعام الحلم في جنة الشهيد والشهيدة.
الأرض ليست أُنثى مطيعة، فتعلَّم كيف تحب هدوءها، وتعلَّم كيف تحبها غاضبةً متمردة.
اصبر على الحصرم، تأكله عنباً.