دبلوماسية الدول الصغيرة: من أوسلو للدوحة
وفقا لنظريات العلاقات الدولية، عادة الدول التي تتمتع بقوة صلبة (عسكرية) يكون لها تأثير في القرارات المتعلقة بالشؤون الدولية. وتعتبر الوساطة في النزاعات، من بين هذه القرارات المخصصة للقوى العالمية بسبب هيمنة هذه الدول وقدرتها على الزام الاطراف بالتنفيذ. لقد أثبت الواقع والتجارب الحديثة محدودية هذه النظرية.
وشهدت العقود الأخيرة تزايد ادوار الدول الصغيرة التي أظهرت كفاءة وتفوقا في الوساطة في النزاعات. ومن بين هذه الدول، النرويج وقطر اللتان عززتا وجودهما الدولي من خلال الوساطة.. منذ بداية القرن الحادي والعشرين، زادت قطر من مشاركتها السياسية على المستوى الدولي وشكلت جولة الدوحة لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001 إنجازاً كبيراً لقطر، فشهدت السنوات التالية مزيداً من التدخل في الأحداث العالمية لنشهد تفوق في الدبلوماسية الرياضية من استضافة استثنائية للمونديال ومنتدى الدوحة الذي يجمع قيادات العالم السياسي والاقتصادي كل عام.
من المثير للاهتمام دراسة الدور الذي تلعبه قطر في مبادرات الوساطة في الصراعات حول العالم واخرها ما شهدناه من نجاح وساطة قطر في اطلاق سراح أمريكيين من فنزويلا في صفقة تبادل بعد مفاوضات عدة اشهر بين امريكا وفنزويلا بقيادة قطرية حيث ستقام انتخابات عام ٢٠٢٤ في فنزويلا بينما تخف العقوبات على قطاع الطاقة في كاراكاس.
حاولت الحكومة اللبنانية تقليص نفوذ حزب الله، وهي جماعة مقاومة مسلحة شيعية، من خلال قطع شبكة الاتصالات التابعة لها وإقالة المسؤولين المشتبه في ارتباطهم مع الجماعة. وأدى ذلك إلى دخول قوات حزب الله لأجزاء من بيروت، وبالتالي إغلاق الموانئ الجوية والبحرية الرئيسة, كارثة بالنسبة لبلد مثل لبنان، الذي كان يخرج ببطء من دمار الحرب الأهلية. وفي مايو/ايار 2008، توصل طرفا النزاع إلى اتفاق بدعم من قطر كوسيط واتفق الجانبان على إطار لإجراء انتخابات برلمانية جديدة في عام 2009، ونجحت قطر، بوساطتها، في تجنب الحرب الأهلية في لبنان.
يعتبر التدخل الأمريكي في أفغانستان في أعقاب 11 سبتمبر أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن واشنطن حققت هدفها في السنة الأولى من المعركة، إلا أن عودة طالبان إلى الظهور حولت الحرب إلى طريق مسدود.
ونتيجة لذلك، أدركت الولايات المتحدة أن النصر العسكري بعيد المنال، وأصبحت التكاليف الاقتصادية والعسكرية للصراع لا يمكن الدفاع عنها. وفي نهاية المطاف، وجدت الولايات المتحدة وطالبان طريقة لإنهاء هذا الصراع. وكخطوة أولى، سمحت قطر لطالبان بفتح مكتب في الدوحة عام 2013، ويعتبر أول مكتب لطالبان خارج أفغانستان بعد التدخل الأمريكي. وفي السنوات التالية، دعمت الدوحة وسهلت محادثات السلام بين الولايات المتحدة وطالبان. وفي عام 2020، اتفق الطرفان على وقف إطلاق النار والانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
للصراع الفلسطيني الإسرائيلي حضور واضح في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط, بعد فوز حماس في انتخابات ٢٠٠٦ اعتبرت حركات المقاومة عقبة في طريق محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية. ما بين قطاع غزة والضفة الغربية, ظهر الانقسام المشؤوم بين حركتي مقاومة فلسطينيتين مختلفتين - حماس وفتح, وكان توحيد هذين الفصيلين امرا حاسما بالنسبة لمجتمع فلسطيني منظم يعمل من اجل المصلحة الوطنية وتكون بوصلته مواجهة الاحتلال بدلا من التيهان والاقتتال الداخلي. استضافت قطر مسؤولي حماس وجاء اتفاق الدوحة عام 2012 واتفق الطرفان على إنهاء سنوات من الانقسام في قطاع غزة الذي تسيطر عليه "حماس" والضفة الغربية التي تسيطر عليها "فتح". علاوة على ذلك، قرروا تشكيل حكومة وحدة مؤقتة للتحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية. لكن الاتفاق لم ينجح بسبب خلافات داخلية في تمثيل الحكومة المؤقتة. وقطر نجحت في ابرام اتفاقية هدنة موقتة بين إسرائيل و"حماس".
تحافظ قطر على علاقات جيدة كحليف استراتيجي للولايات المتحدة فلديها قاعدة عسكرية تستضيف حوالي 10000 جندي أمريكي. اثرت الأزمة الدبلوماسية القطرية عام 2017 بشكل كبير على علاقتها مع جيرانها الخليجيين. وكان ذلك نتيجة للحصار المفروض على قطر من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر. لكن الازمة أدت إلى تطوير العلاقات مع قوى إقليمية أخرى مثل إيران وتركيا. وفي أعقاب حصار قطر، نشرت تركيا حوالي 3000 جندي إضافي في قطر كما أرسلت تركيا سفن شحن ومئات الطائرات للمساعدة في تعويض الحظر. أنقرة والدوحة حليفتان وثيقتان في السياسة الخارجية، بما في ذلك القضايا في فلسطين وسوريا ومصر. كما أدى الحصار إلى تعميق العلاقات الثنائية بين قطر وإيران. وقفزت الصادرات الإيرانية إلى قطر من حوالي 60 مليون دولار ل 250 مليونا بين عامي ٢٠١٦-٢٠١٨. واستخدمت الخطوط الجوية القطرية المجال الجوي الإيراني لمواجهة الحصار الجوي. ولم تواجه سياسات قطر بمعارضة دولية بسبب علاقاتها الاستراتيجية والتجارية الحاسمة مع هذه القوى الإسلامية. بالعكس, عمل رفع الحصار عن قطر في عام 2021 وزيادة العلاقات الدبلوماسية مع دول الخليج المجاورة إلى توسيع هذا النطاق ونمو دورها وحضورها الدولي.
لا يرى المتابع كثافة الاجتماعات واللقاءات الدبلوماسية رفيعة المستوى التي قادتها قطر للتوصل لاتفاق الهدنة وتبادل الاسرى, نستعرض الجهود الدبلوماسية لرئيس مجلس الوزراء القطري والخارجية للتوصل لاتفاق هدنة إنسانية في غزة:
13 أكتوبر مع الولايات المتحدة الامريكية
14 أكتوبر استقبال وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية
16 أكتوبر الممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط ودول افريقيا
17 أكتوبر الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية مجلس التعاون بمسقط
19 أكتوبر وزير خارجية المملكة المتحدة
25 أكتوبر وزير خارجية الجمهورية التركية
27 أكتوبر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى
29 أكتوبر رئيس حكومة تصريف الاعمال اللبنانية
31 أكتوبر وزير خارجية حكومة الظل البريطانية ونائب رئيس الوزراء وزير الخارجية بمملكة تايلاند ووزير الخارجية الإيراني
4 نوفمبر اجتماع الأردن مع وزراء الخارجية العرب مع وزير الخارجية الأمريكي
5 نوفمبر وزيرة أوروبا والشؤون الخارجية في الجمهورية الفرنسية
11 نوفمبر اجتماع مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي التحضيري للقمة الإسلامية الاستثنائية الثامنة
11 نوفمبر اجتماع مع وزيرة خارجية المانيا
14 نوفمبر وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جمهورية جنوب افريقيا
18 نوفمبر منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال افريقيا في مجلس الامن القومي الأمريكي
19 نوفمبر الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي
الدور القطري من لبنان لأفغانستان لفنزويلا لفلسطين يعكس ثقة الجميع بدءا بأمريكا وصولا لإسرائيل مما يعزز نفوذا لدورها المتزايد كوسيط في المنطقة وزادت الدوحة من نفوذها بتأثيرها على الحركات الإسلامية ونتيجة لذلك، يمكن للدوحة الآن أن تكون بمثابة ميسر او وسيط بين الدول الأجنبية والمنظمات الإسلامية لأن العديد من الدول، حتى في المنطقة، ليس لها علاقة بهذه المنظمات. تأثير الدوحة في نجاح محادثات السلام بين الولايات المتحدة وطالبان أعطى قطر المزيد من الاهتمام الدولي وهذا ما نراه اليوم في تعاملها مع ملف حماس بمباركة أمريكية وغربية كاملة.
الولايات المتحدة تروج لقطر كعلامة تجارية في مفاوضات السلام, لقد أصبحت الدوحة بمثابة خط الامان من أجل العمق الاستراتيجي الغربي في الوصول إلى الجنوب العالمي, حيث تتشابك سياسات الشرق الأوسط مع المصالح الطائفية والدينية لبعض الجهات الفاعلة وتتأثر سياسات الدول في المنطقة بعلاقاتها الشيعية والسنية والإسلامية والغربية وتتوافق سياسات قطر الخارجية مع كل هذه العناصر, مما أبرز دور قطر كوسيط في دائرة الضوء.
الجهود الدبلوماسية التي تستثمر فيها قطر هي عنصر أساس من عناصر امنها القومي, قطر اليوم تسطر نموذج دبلوماسية الدول الصغيرة التي بدأت من أوسلو قبل ٣ عقود, ومن أوسلو تكاثفت وتيرة العمل الدبلوماسي القطري منتصف ديسمبر حيث قام رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري بجولات ولقاءات دبلوماسية مكوكية بدءا بلقاء رئيس الوزراء النرويجي ووزير خارجية لوكسمبورغ وبلجيكا وهولندا والسويد وتلقى اتصالاً من وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط البريطاني واتصالا من وزيرة الخارجية الأرجنتينية وتلقى اتصالا من الأمين العام للأمم المتحدة واستقبل وزير الدفاع الأمريكي ووزير الخارجية الإيراني وشارك في اجتماع اللجنة الوزارية المكلفة من القمة العربية الإسلامية مع رئيس وزراء النرويج ووزراء خارجية دول "النورديك" و"البنلوكس". تواصل قطر جهودها الدبلوماسية لتجديد الهدنة في غزة وتأمل في انجاز اتفاق شامل ومستدام لإنهاء الحرب وقيادة محادثات جادة نحو عملية سياسية مع تصاعد الحديث عن مسار سلمي الان, نامل ان تلعب الدوحة قريبا دور الوسيط في محادثات السلام في الشرق الأوسط وتحقق ما حققته في أفغانستان من وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي في نهاية المطاف من قطاع غزة وكل الأراضي المحتلة حسب الشرعية الدولية ونامل ان ترتب لانتخابات مثلما فعلت في فنزويلا ولبنان.
*أستاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي, كلية الدراسات العليا, الجامعة العربية الامريكية.