فلسطين الثمن ، هكذا يُتمِم ترامب مشروعه للشرق الأوسط الجديد .

د . مروان إميل طوباسي
بينما تُباد غزة على مرأى العالم في مجازر تُعيد إلى الأذهان أكثر صفحات التاريخ قتامة ، وبينما تُدمر مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية بلا هوادة، اختار دونالد ترامب أن يستأنف حضوره السياسي الدولي عبر جولة خليجية بدأت من السعودية، دون أن يذكر فلسطين ، ولو عرضاً. هذا الصمت السياسي المتعمد ، المشبع بالأحتقار لحقوق شعبٍ يُذبح كل يوم ، لم يأتي فقط من ترامب ، بل من قيادات استضافته وشاركته تجاهل القضية الفلسطينية ، بل ورحبت به أستقبالاً وتحالفاً وصفقات .
الزيارة التي تم الترويج لها كفرصة اقتصادية، تجاوزت ذلك إلى ما هو أخطر ، بحيث تم إعادة بعث رؤية ترامب القديمة عن "الشرق الأوسط الجديد" المستندة إلى تصفية القضية الفلسطينية منذ بدء ما سمي بالربيع العربي ، وتوسيع دائرة التطبيع مع إسرائيل خارج أي سياق للعدالة أو إنهاء الأحتلال الإستعماري العنصري . مشروع يندرج ضمن خريطة استراتيجية إمبريالية تسعى إلى إعادة رسم المنطقة بما يخدم أمن وتوسع إسرائيل ، ومصالح المجمع الصناعي العسكري الأميركي ، وتثبيت أنظمة الحكم التابعة بالمنطقة .
مئات المليارات طُرحت على الطاولة ، منها اكثر من مئة مليار لصفقات سلاح ، بينما أُسقطت فلسطين من البيان المشترك ، وغابت من التداول العلني ، في واحدة من أكثر لحظات الصراع دموية . وبدلاً من أن تكون الإبادة الجماعية في غزة عنوانا للتحرك السياسي ، تحولت إلى مجرد خلفية صامتة لا تُزعج المصالح المتبادلة بين ترامب ومستضفيه من الشيوخ الذين بدا أنهم يواصلوا دورهم المركزي في بناء تحالف اقتصادي ، أمني ، تكنولوجي مع إسرائيل ، وفق منطق "السلام مقابل المال" لا الحقوق .
ما يزيد المشهد خطورة هو إدراج ترامب لقاءً خاصا مع أحمد الشرع ، رئيس ما يسمى "السلطة السورية المعينة" التي أتت عبر الغزوة من الشمال ، والتي تستند إلى الأحتلال التركي بدعم أميركي خليجي . هذا اللقاء لم يكن عرضياً ، بل جاء في سياق توسيع أدوات المشروع الأميركي في المنطقة ، من خلال كيانات وظيفية ضعيفة تمثل قوى انفصالية أو سلطات محلية لا تمتلك شرعية شعبية او انتخابية ، ولا تعبر عن الهوية الوطنية الجامعة المتعددة والمتنوعة في الاطار الوطني . وقد يرتبط ذلك بسيناريوهات لتفريغ مناطق معينة مستقبلاً ، ضمن هندسة جيوسياسية تسعى لتفكيك الهوية القومية الجامعة في المشرق العربي ، وقد تُستخدم لتبرير تهجير إضافي لشعبنا الفلسطيني نحو الأردن أو سورية ، رغم الرفض العلني لذلك من بعض الأطراف ، وعلى رأسها الأشقاء بالقيادة الأردنية .
إن تغييب فلسطين من الحسابات الرسمية لبعض العواصم ، وغياب أي رد فعل حقيقي على ما يحدث في غزة والضفة وبالمقدمة منها القدس الشريف ، هو تهرب فاضح من المسؤولية القومية والتاريخية وحتى الأخلاقية . ويؤشر إلى استعداد هذه الأنظمة للدخول في تحالفات تؤمن "الأستقرار" على حساب القيم ، و"التنمية" على أنقاض السيادة الوطنية ، و"الذكاء الاصطناعي" فوق جماجم الأطفال .
في هذا السياق ، تغيب فلسطين عن الطاولات الرسمية ، لكنها تبقى في ضمير الشعوب الحرة . وتبقى الحقيقة ساطعة ، بأن لا أمن بدون عدالة ، ولا استقرار بدون إنهاء الأحتلال ، ولا مستقبل في ظل الإبادة والمحرقة وبناء مشروع اسرائيل الكبرى . فالتطبيع الذي يستند الى خرافات وأساطير الرؤية الأبراهمية التوراتية ، مهما توسع لن يمنح إسرائيل شرعية أخلاقية وسياسية وقانونية في استمرار جريمة أحتلالها الأحلالي وتداعياته ، والمليارات التي تُضَخ ، لن تشتري صمت التاريخ .
إن التواطؤ الرسمي أينما كان مصدره ، والأزدواجية الغربية ونفاق المواقف السياسية ، كلها تحديات تفرض علينا كفلسطينيين أن نعيد صياغة مشروعنا الوطني التحرري بأدوات أكثر صلابة وبارادة سياسية واضحة . أن نحصّن وحدتنا الداخلية ، ونعيد بناء واستنهاض منظمة التحرير الفلسطينية على أسس تمثيلية ديمقراطية واسعة ، لتكون قادرة على قيادة نضال شعبنا في الميادين السياسية والقانونية والدبلوماسية والميدانية ، مستندة إلى وحدة شعبنا في كافة أماكن تواجده وبرنامج وأدوات تعتمد استراتيجية التحرر الوطني وحماية شعبنا وتمكينه من الصمود .
اليوم ، وأكثر من أي وقت مضى يجب أن نعيد تفعيل تحالفاتنا مع القوى الحية في العالم والدول الصديقة ، ومع الحركات التقدمية المناهضة للأستعمار والعنصرية ، ومع الشعوب التي تقف إلى جانبنا وتتظاهر تضامنا في عواصم الدول . فالعالم في مسار تغيره الدائم لا يزال يحمل بذور العدالة والمساواة ، رغم طغيان الإمبراطورية التي تُشرف على الأفول كما سقطت غيرها عبر التاريخ ، وخاصة الآن مع بدايات ظهور النظام الدولي المتعدد الأقطاب .
إن فلسطين ليست بنداً في ميزان الصفقات ، ولا صندوق بريد بين العواصم . فلسطين هي قلب هذه المنطقة ، وهي ميزان كرامتها ومصدر شرعيتها . ومهما بلغت شراسة العدوان ، وعمق التواطئ والأنصياع ، فإن قضية عادلة بحجم فلسطين لا تموت .