هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون فنانا؟

عبد الرحمن الخطيب
في زمن بات المستحيل فيه أقرب من الممكن، نقف إعجابا وإندهاشا أمام قدرات الآلة، يتابدر لذهننا أسئلة جدلية معقدة، واحدة من هذه الأسئلة، والتي بدأت تطرق أبواب النقاشات الفنية: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون فنانا؟
لعقود طويلة، كان يُنظر إلى الفن بوصفه التعبير الأسمى والأرقى عن الإنسانية وقيمها، حيث إنه لغة الشعور، وترجمة صادقة لما يختلج داخل النفس. هو انعكاس وجدان الحياة، ومرآة التأمل والذاكرة والحنين، فكيف لآلة، بلا قلب ولا طفولة ولا حنين ولا حزن ولا فرح، أن تخوض في هذه العوالم والمتناقضات والمشاعر؟ كيف يمكن أن "تشعر لتوجد فنا؟
ورغم ذلك، فإن الواقع يقدّم لنا مشاهد مذهلة تُربك هذا اليقين والمعتقد، فخوارزميات الذكاء الاصطناعي، تُنتج لوحات فنية تبدو كأنها من توقيع أعظم الفنانين والتشكيلين، تطبيقات تُلحن موسيقى قادرة على إثارة العاطفة، وتطبيقات تكتب قصائد وقصصا قصيرة تحمل طابعا أدبيا ثقافيا حقيقيا، فالبعض بدأ يستخدم الذكاء الاصطناعي لصناعة الأفلام، أو تصميم الأزياء، أو حتى كتابة نصوص دراميّة.
هنا، نقف أمام مفارقة مثيرة: كيف لآلة لا تعي معنى الجمال أن توجده؟ كيف لتطبيق حاسوبي، يستند إلى تحليل بيانات لا مشاعر، أن يُبدع؟
حقيقة، إن ما يُنتجه الذكاء الاصطناعي لا ينبع من تجربة داخلية أو رؤية فلسفية، بل من قدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات، وتحليل الأنماط، والتوليف بين عناصر مختلفة للوصول إلى نتيجة "إبداعية" ظاهريا، فهو يقلد، يُركّب، يُعيد ترتيب ما تعلمه من فنون البشر، لكنه لا يخترع من العدم كما يفعل الفنان حين يُخرج من ذاته عالما لم يكن موجودا من قبل.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن هذه الأدوات أصبحت ذات تأثير حقيقي في المشهد الفني، الكثير من الفنانين حول العالم بدأوا باستخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد في عملية إيجاد وإنتاج الفن. يُستخدم لتوليد أفكار أولية، لاقتراح لوحات ألوان، لصياغة أشكال هندسية معقدة، أو لتوليد إيقاعات جديدة في الموسيقى، ففي هذا السياق، لا يُنظر إليه كمنافس، بل كأداة توسّع مدارك الفنان وتدفعه لاستكشاف مناطق لم يكن ليخوض بها لوحده، بل إن بعض الفنانين وجدوا في الذكاء الاصطناعي نوعا من "المرآة العاكسة"، التي تُظهر لهم زاوية جديدة من ذاتهم، أو تُحفّزهم على الخروج من القوالب التقليدية التي طالما اعتادوا عليها.
لكن يبقى السؤال قائمًا: هل الأداة التي تُستخدم في إنتاج الفن، يمكن اعتبارها فنانا بذاتها؟
لفهم الإجابة، علينا التوقف عند معنى "الفنان". الفنان هو من يُنتج عملاً نابضا من صميم تجربته، من لحظة وجدانية، أو موقف وجودي، أو شعور دفين، هو من يحوّل الألم إلى نغمة، والخسارة إلى لون، والذاكرة إلى مشهد بصري، و ما يرى ما لا يُرى، ويشعر بما لا يُقال، ثم يُترجمه إلى لغة يُدركها الآخرون دون كلمات.
الذكاء الاصطناعي لا يعيش، إذا هو لا يحزن، لا يحب، لا يشتاق، فهو جهاز يولّد بناءً على ما تعلمه، ولا يخترع إحساسا، ولربما لهذا السبب، يرى البعض، أنه مهما بلغ الذكاء الاصطناعي من البراعة، يبقى "فنانا محاكيا"، لا "فنانا حقيقيا".
ومع ذلك، ثمة من يطرح وجهة نظر مختلفة وتحديدا من هم على شاكلتي من التقنيين والمختصين بمجال التقنية والتقانة، فنقول: وماذا لو تمكّنا مستقبلا من برمجة الذكاء الاصطناعي ليشعر؟ ماذا لو دربناه على معاني الحب والخسارة والحنين؟ ماذا لو صنعنا له ذاكرة صناعية، وأدخلنا إليه مشاهد من الطفولة والفقد والانكسار؟ هل عندها سيكون أقرب إلى الفنان الحقيقي؟
هذا الطرح يفتح الباب نحو أفق واسع، يتجاوز الفن ليطرح سؤالا وجوديا: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلّ محل الإنسان في أكثر مجالاته خصوصية؟ ومتى يُصبح "شبه إنسان"؟ وهل يمكن أن تنشأ مشاعر صناعية، ولكنها مقنعة حد الخداع؟ حقيقة لا إجابة انية لدي لكن ما يشهده العالم من تطوير سريع ومتسارع لأبحاث وتطبيقات الذكاء الاصطناعي قد تعطينا مؤشرؤات ورؤى حول أنسنة الالة وتفاعلها.
لكن، حتى لو فعلنا ذلك، تبقى هناك فجوة لا يمكن ردمها بسهولة، لأن الفن لا يُختصر في المشاعر فقط، بل في السياق الإنساني الذي ينتج فيه، في البيئة، في التناقضات، في المعاناة، في العِشرة، في التفاصيل اليومية التي لا تُعلَّم بل تُعاش، فهي تركيبة معقدة لا تلتقطها الخوارزميات بسهولة، مهما تقدمت.
ربما مع الوقت، وربما بعد سنوات من "تغذية" الذكاء الاصطناعي بكل ما أنتجته الروح البشرية، سينجح في إقناعنا بأنه "يشعر"، لكن السؤال الذي سيبقى معلقا: هل هذه المشاعر حقيقية، أم مصطنعة؟ وهل يمكن للفنان أن يُولد من معادلة وخوارزمية؟ أم أن الفن، في جوهره، يبقى حكرا على من امتلك القلب قبل الموهبة؟