هل تدفع الدول العربية ثمن اللاموقف من حرب غزة؟

د. إبراهيم نعيرات
الدول العربية تدفع ثمن ترددها وغياب موقف حاسم تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، سواء على المستوى السياسي أو الاستراتيجي أو حتى الشعبي. فبينما استمرت الحرب دون رادع، اكتفت معظم العواصم العربية بإدانات لفظية وتحركات دبلوماسية محدودة لم يكن لها أي تأثير ملموس على مجريات الأحداث. هذا الموقف السلبي لم يمر دون عواقب، بل انعكس سلبًا على مكانة هذه الدول إقليميًا ودوليًا، وجعلها أكثر عرضة للضغوط والابتزاز السياسي من قبل القوى الكبرى.
إحدى النتائج المباشرة لهذا اللاموقف هو تآكل النفوذ العربي في الملف الفلسطيني، حيث أصبحت إسرائيل، بدعم غربي واضح، هي الطرف الوحيد الذي يفرض شروطه على الأرض. الدول العربية التي كان يُفترض أن تلعب دورًا فاعلًا في الضغط على إسرائيل أو حتى توفير دعم حقيقي للفلسطينيين، وجدت نفسها متفرجة على إعادة تشكيل خريطة الصراع وفقًا للمصالح الإسرائيلية. وهذا لا يقتصر فقط على استمرار الحرب، بل يشمل أيضًا سياسات التهجير والاستيطان وتغيير الواقع الجغرافي والسياسي في الضفة الغربية والقدس.
على الصعيد الدولي، فإن هذا التردد منح إسرائيل وحلفاءها مساحة أكبر للمناورة، حيث غابت الضغوط الحقيقية التي قد تدفع تل أبيب لإعادة النظر في استراتيجيتها. الدول العربية التي تمتلك أوراق ضغط اقتصادية وسياسية، مثل النفط والعلاقات التجارية، لم تستثمر هذه الأدوات بالشكل المطلوب، ما جعل الموقف العربي يبدو وكأنه غير ذي وزن حقيقي في المعادلة. هذا الضعف قد يفتح المجال لمزيد من التدخلات الأجنبية في المنطقة، حيث تسعى الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى إلى فرض أجندات تتناسب مع مصالحها، دون أي اعتبار للموقف العربي.
أما داخليًا، فقد أدى غياب الموقف الواضح إلى تصاعد الغضب الشعبي في العديد من الدول العربية. الشارع العربي، الذي كان دائمًا حساسًا تجاه القضية الفلسطينية، شعر بخيبة أمل كبيرة من أداء الحكومات العربية. هذه الهوة بين الشعوب والأنظمة قد تكون لها تداعيات مستقبلية، خاصة إذا استمر العدوان الإسرائيلي لفترة أطول، أو إذا تم فرض تسويات سياسية لا تحظى بالقبول الشعبي.
وبعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن الورطة العربية قد تتفاقم. ترامب، المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل ونهجه القائم على الابتزاز السياسي، قد يستغل ضعف الموقف العربي لفرض شروط أكثر قسوة، سواء في ما يتعلق بالتطبيع أو بتقديم تنازلات اقتصادية وأمنية. الدول العربية التي لم تتحرك اليوم قد تجد نفسها غدًا أمام خيارات أصعب بكثير، حيث تصبح غير قادرة على الرفض أو المناورة.
يبدو أن الدول العربية تدفع بالفعل ثمن ترددها في اتخاذ موقف حاسم من الحرب على غزة. ومع استمرار الصراع، فإن تكلفة هذا اللاموقف قد تزداد، ليس فقط على الفلسطينيين، بل على المنطقة بأكملها، التي قد تجد نفسها أمام واقع سياسي جديد لا يخدم إلا إسرائيل وحلفاءها.
رغم قتامة المشهد، لا يزال هناك متسع لتغيير المسار، لكنه يتطلب قرارات جريئة. يمكن للدول العربية استخدام أوراق ضغطها الاقتصادية والدبلوماسية، سواء من خلال الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل عبر العلاقات التجارية والنفطية، أو عبر تشكيل تحالفات جديدة داخل المنظمات الدولية. كما أن مراجعة اتفاقيات التطبيع وربطها بوقف العدوان الإسرائيلي قد تكون خطوة ضرورية لإعادة التوازن إلى المشهد. دعم المقاومة الشعبية الفلسطينية سياسيًا وماليًا هو أيضًا خيار مهم لتعزيز صمود الفلسطينيين ورفع تكلفة الاحتلال.
في النهاية، تجد الدول العربية نفسها أمام لحظة مفصلية. إما أن تتحرك بجدية لتعديل مسار الأحداث قبل أن تُفرض عليها حلول لا تخدم مصالحها، أو تبقى في موقع المتفرج، حتى تجد نفسها في ورطة أكبر، حيث لم تعد تملك القدرة على الرفض أو التفاوض.