هل يكفي وقف إطلاق النار لإنقاذ غزة؟

يناير 30, 2025 - 11:00
هل يكفي وقف إطلاق النار لإنقاذ غزة؟

ياسر منّاع

يمثل وقف إطلاق النار في غزة محطة حرجة، لكنه لا يعدُّ أكثر من تقاطع مؤقت ضمن مسار طويل من حرب الإبادة. إن الواقع الحالي في قطاع غزة يشهد أزمات متداخلة ناتجة عن حرب إبادة منظمة، ويتطلب استجابة تُدار بواقعية سياسية وعملية تتجاوز الشعارات والمفاهيم المثالية. ما هو مطلوب الآن ليس التوقف عند حالة التهدئة، بل المضي قدمًا في خطوات مدروسة تهدف إلى تحقيق استقرار دائم إلى حد ما على أسس جديدة.

إن استدامة وقف إطلاق النار يجب أن تُبنى على ترتيبات تضمن موازين قوى ميدانية تُلزم الطرف المعتدي بالامتناع عن تكرار أفعاله. لتحقيق ذلك، يجب إنشاء لجنة دولية مستقلة لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، حيث تعمل هذه اللجنة على توثيق أي خروقات إسرائيلية. كما يتعين على المجتمع الدولي، ممثلًا بمجلس الأمن، تبني قرار يُدوّل وقف إطلاق النار ويُضفي عليه صفة الإلزام القانوني، مما يضع إسرائيل أمام مسؤولية مباشرة تجاه أي انتهاكات، ولا يمكنها من العودة إلى الحرب كما يرغب تيار من اليمين الاسرائيلي.

أما الشروع في إعادة الإعمار، فإنه ليس مجرد إعادة بناء ما دمرته الحرب، بل هو معركة أخرى ضد محاولات تفريغ المكان من مضمونه البشري والاقتصادي. إعادة الإعمار يجب أن تكون مدخلاً لاستعادة القوة المجتمعية والاقتصادية للفلسطينيين، حيث لا يمكن تصور أي استقرار دون قاعدة صلبة من الخدمات الأساسية والبنية التحتية. المطلوب هنا ليس فقط التمويل، بل إدارة واعية تنقل القطاع من حالة الإنهاك إلى حالة التعافي. يجب أن تترافق عملية إعادة الإعمار مع خلق فرص عمل واسعة تسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي وتحقيق الاستقلالية الاقتصادية. يجب إشراك المنظمات الدولية والمحلية في وضع خطة تنموية شاملة تعتمد على بناء البنية التحتية، من شبكات المياه والكهرباء إلى المدارس والمستشفيات. ويجب أن يتضمن ذلك إعادة تأهيل القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصيد والصناعة بما يُعيد الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها ويحول دون الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية.

إبقاء تهمة الإبادة حيّة ضد إسرائيل ليس خيارًا يمكن تجاوزه، بل هو ضرورة لضمان أن ما حدث في غزة لا يُطوى في صفحات النسيان الدولي. هذه الجرائم تحتاج إلى توثيق منهجي ودقيق يشمل كل تفاصيل العدوان، ليكون هذا التوثيق سلاحًا في معركة مفتوحة تمتد من المحاكم الدولية إلى ساحات الرأي العام العالمي. إن إبراز جرائم الإبادة يعني أيضًا العمل على تغيير المعادلات السياسية التي سمحت بحدوثها، من خلال تعرية المنظومة التي تدير هذا العدوان وتوفير الحماية له. لتحقيق ذلك، يجب إنشاء فرق مختصة بجمع الأدلة وإجراء تحقيقات ميدانية توثق الجرائم بشكل مفصل ودقيق. كما ينبغي استخدام هذه الأدلة لإعداد ملفات قانونية قوية تُرفع أمام المحكمة الجنائية الدولية والمحافل القضائية الأخرى. إضافة إلى ذلك، يجب تكثيف الجهود الإعلامية والدبلوماسية لإبقاء الجرائم الإسرائيلية في دائرة الضوء، ما يُسهم في تعبئة الرأي العام العالمي ويضغط على الحكومات الداعمة لإسرائيل.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية الوحدة الفلسطينية كشرط حتمي لإدارة هذه المرحلة وما يليها. إن استمرار الانقسام الفلسطيني يمنح الاحتلال مساحات إضافية لمواصلة سياساته دون ردع. الوحدة هنا ليست مسألة شعارات، بل ضرورة بقاء سياسي، حيث يجب بناء منظومة عمل فلسطينية تتعامل مع الواقع الجديد دون الالتفات إلى الحسابات الفصائلية الضيقة. حكومة وحدة وطنية ذات برنامج سياسي مرن وإدارة قوية ستكون قادرة على قيادة عملية إعادة الإعمار وتحقيق إنجازات ميدانية ودبلوماسية. يجب أن يكون هناك حوار وطني شامل يُفضي إلى رؤية موحدة تُعزز من الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية. هذه الوحدة يجب أن تركز على إعادة بناء الثقة بين الفصائل من خلال خطوات عملية مثل تشكيل لجان مشتركة للإشراف على القضايا الوطنية الكبرى وتوحيد الجهود السياسية والميدانية.

وقف إطلاق النار في غزة هو اختبار، وفرصة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة بما يخدم مصلحة الفلسطينيين. إذا لم تُترجم هذه الفرصة إلى خطوات حقيقية تُحدث تغييرًا في الميدان، فإن المشهد سيبقى عالقًا في دائرة مفرغة من التصعيد والتهدئة المؤقتة. المطلوب الآن هو العمل بوعي وإصرار على خلق واقع جديد يضع غزة في مركز مختلف، ليس كضحية متكررة. هذا يتطلب استراتيجية طويلة الأمد تستند إلى إرادة صلبة ورؤية واقعية تعالج جميع آثار الحرب، وتفتح الطريق نحو مستقبل يحمل للفلسطينيين مقومات الحياة الكريمة التي يستحقونها.