وحدة الساحات: السلاح الذي لا تراه إسرائيل في معركة وجودية

سبتمبر 28, 2024 - 10:18
وحدة الساحات: السلاح الذي لا تراه إسرائيل في معركة وجودية

ياسر مناع 

 باحث في برنامج ما جستير الدراسات الإسرائيلية/ جامعة بيرزيت

 

نفذت إسرائيل مؤخراً عملية قصف جوي مكثف على لبنان تحت اسم "سهام الشمال"، بهدف سياسي واضح يتمثل في الضغط على حزب الله للتوصل إلى تسوية سياسية تفصل بين الحرب الدائرة في قطاع غزة وأي مواجهة محتملة مع حزب الله في لبنان. وسط هذا التصعيد، عاد مصطلح "وحدة الساحات" إلى الواجهة بقوة.

يهدف المقال إلى تحليل مفهوم "وحدة الساحات" وتعريف معانيه المختلفة. يمكن القول إن هذا المصطلح برز بعد معركة "سيف القدس" التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في مايو 2021، دفاعًا عن المسجد الأقصى ورداً على الانتهاكات الإسرائيلية في القدس، ومحاولة إخلاء حي الشيخ جراح. معركة سيف القدس فتحت فصلًا جديداً من التلاحم بين مختلف الساحات التي ترى في إسرائيل عدوًا مشتركًا.

برز مفهوم "وحدة الساحات" بشكل ملحوظ عقب معركة "سيف القدس"، حيث كشفت تلك المعركة عن وحدة التفاعل بين ساحات المقاومة المختلفة، سواء في غزة، أو الضفة الغربية، أو الأراضي المحتلة عام 1948 أو لبنان. ثم برزت في طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 ساحات أخرى مثل سوريا، العراق واليمن. جاءت المعركة لتؤكد أن العدوان الإسرائيلي على أي ساحة من تلك الساحات سيقابل بردود فعل قد تتخطى الحدود الجغرافية المعتادة.

"وحدة الساحات" هو مصطلح صك في ذروة المواجهة مع إسرائيل، ويعبر عن تضافر الجهود المتنوعة بين مجموعة من ساحات المقاومة التي تشمل غزة، والضفة الغربية، والداخل الفلسطيني، ولبنان، وسوريا، واليمن، والعراق. هذه الساحات، رغم تباعدها الجغرافي واختلاف ظروفها السياسية، تتوحد في رؤية مشتركة لمواجهة إسرائيل، ما يجعل الصراع يتجاوز الحدود العسكرية ليشمل مجالات أعمق وأكثر تأثيرًا.

بمعنى إن "وحدة الساحات" ليس مجرد مصطلح عسكري بل يحمل معاني أعمق ترتبط بوحدة الهدف والرؤية ضد الاحتلال الإسرائيلي. الرد من غزة على أحداث القدس مثّل علامة فارقة في إدراك المقاومة أن المعركة واحدة على مختلف الجبهات، وأن استهداف أي ساحة هو استهداف للجميع.

المفهوم لا يعني فقط تنسيق العمليات العسكرية، بل يتعدى ذلك ليشمل ثلاث معانٍ رئيسية تساهم في تعزيز هذه الوحدة: وحدة تعريف العدو، وحدة المشهد التدميري، ووحدة الشعور الفردي. في هذا السياق، يمثل المصطلح قوة جديدة تعمل على إعادة تشكيل الساحة السياسية والميدانية لصالح المقاومة.

إحدى السمات الأبرز في "وحدة الساحات" هي وحدة تعريف العدو. في هذه الساحات المتنوعة، تتشكل نظرة واحدة لإسرائيل كعدو مشترك. هذا التعريف الموحد للعدو يجعل من الصراع معها مسألة وجودية ليست مقتصرة على حدود غزة أو لبنان، بل تنسحب على كل ساحة ترى في إسرائيل مشروعاً استيطانياً وعدواً يجب مواجهته ومحاربته.

إنه ليس مجرد صراع جيوسياسي بين دولتين أو أكثر، بل هو صراع بين محور المقاومة وبين كيان يعتبره هذا المحور تهديداً مستمراً. هذا التحديد الواضح للعدو يعزز من وحدة هذه الساحات، ويمنحها زخماً استراتيجياً يجعل من أي هجوم على إحدى هذه الساحات هجوماً على الجميع، فكل جبهة ترى أن معركتها هي جزء لا يتجزأ من معركة أكبر وأوسع.

إسرائيل بعملياتها العسكرية في مختلف الساحات، خلقت مشهداً متشابهاً في كل مكان تصل إليه. من غزة إلى الضفة الغربية، من الضاحية الجنوبية في لبنان إلى مواقع في سوريا والعراق، يبدو أن الاحتلال يكرر نفس أساليب التدمير في كل ساحة. الصور التي تأتي من غزة تتطابق مع مشاهد الدمار في الضاحية الجنوبية، والنيران التي تشتعل في ميناء الحديدة في اليمن تتشابه مع النيران التي التهمت القنصلية الإيرانية في سوريا.

هذه وحدة المشهد التدميري تجعل من العدوان الإسرائيلي عنصراً مشتركاً بين جميع الساحات، حيث يتكرر المشهد المدمر في كل مرة. النتيجة أن هذا الدمار يساهم في زيادة تلاحم الجبهات، فالشعوب والمقاومات في تلك الساحات باتت تدرك أن العدو الذي يضربهم هو ذاته، ويستخدم نفس الأدوات والأساليب لتدميرهم. ما يجري في غزة ليس بعيداً عما يجري في لبنان أو اليمن، والتدمير في كل مكان يساهم في تعزيز وحدة الصف المقاوم.

لا يقتصر التأثير على الجانب المادي فقط، بل يمتد إلى الجانب النفسي والشعوري. وحدة الشعور الفردي تمثل بعداً أساسياً في هذا المفهوم، حيث يشعر الفرد في كل ساحة أن ما يجري في الساحات الأخرى هو امتداد لما يعايشه في بلده. التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة يعزز الشعور بالقضية المشتركة في لبنان، والعراقي يشعر بأن الحرب على سوريا أو اليمن مرتبطة بصراعه ضد إسرائيل.

هذا الترابط العاطفي والنفسي يعزز من تماسك محور المقاومة، حيث يصبح الفرد في كل ساحة جزءاً من معركة أكبر. الشعور الجماعي بأن المصير مشترك، يعزز الإرادة الشعبية لمواصلة المقاومة والتصدي للعدوان، ما يجعل من "وحدة الساحات" أداة نفسية قوية تساهم في تقوية عزيمة محور المقاومة.

إسرائيل، رغم محاولاتها المتكررة لفصل الساحات عن بعضها البعض وتحييد قوى المقاومة، فإن أفعالها على الأرض تؤدي إلى تعزيز الترابط بين هذه الساحات. "وحدة الساحات" لا تعني فقط المواجهة العسكرية المباشرة، بل هي امتداد لوحدة الشعور والتجربة المشتركة في مواجهة العدو الواحد. 

بالرغم من أن لكل ساحة من ساحات المقاومة أهدافها الخاصة التي تعمل على تحقيقها بناءً على ظروفها المحلية والسياسية، إلا أن هذه الساحات تتفق وتتشرك في الهدف العام والوسيلة والمشروع في إطاره العام. فسواء كانت الساحة في غزة، الضفة الغربية، الداخل الفلسطيني، لبنان، سوريا، اليمن أو العراق، يبقى الهدف الأسمى هو مواجهة إسرائيل وإفشال مشروعها الاستعماري. هذه الساحات تتبنى وسيلة المقاومة المسلحة، السياسية، والشعبية كأداة لتحقيق التحرر الوطني.

"وحدة الساحات" هي سلاح جديد في يد محور المقاومة، سلاح لا تراه إسرائيل بشكل مباشر، ولكنه أكثر فاعلية من أي سلاح تقليدي. هذا المفهوم يعيد تشكيل موازين القوة، ويجعل من أي محاولة إسرائيلية للفصل بين الساحات جهداً محكوماً بالفشل.