مؤشرات السقوط من القمة

يونيو 2, 2024 - 09:11
مؤشرات السقوط من القمة

أحمد صيام

دولة الاحتلال الاسرائيلي من الدول التي طالما تغنى بها الغرب وغضوا الطرف عن ممارساتها العنصرية وانتهاكاتها السافرة وتجاوزاتها اللامحدودة للقانون الدولي وتنكرها للحقوق الفلسطينية والعربية، وتنصيبها شرطي المنطقة لحماية المصالح الغربية، حيث جيشها الذي لا يقهر وسطوتها وديموقرطيتها الفريدة والوحيدة في المنطقة، ومن هنا كان الدعم المطلق لها وإمدادها ماديا ومعنويا بشتى السبل، ومعاملتها دوما خارج القانون ولا يحق لأي كان محاسبتها، واستبعادها من أي قرار دولي قد ينال منها، وتسخير كافة المؤسسات الأممية لصالحها، حتى ان محكمة الجنايات الدولية التي اتخذت قرارت مؤخرا بحقها كانت قد أنشئت لمحاكمة من ارتكب الجرائم بحق من يتبع لسلالتها قبل قيامها.
ولطالما سعت الحركة الصهيونية الى انشاء وطن قومي لليهود، ولم تخف يوما أحلامها بإحياء مملكة يهودية، وسخرت جل ما تملك من إمكانيات مادية ومعنوية "وكيدية" معهودة لدى اليهود على مر العصور للسيطرة على فلسطين والقدس، وتشريد سكانها وإحلال مستعمرين غرباء مكانهم، تحت ادعاء "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، إلى أن نجحت في مساعيها، وكانت على مرحلتين في عامي 1948 و 1967، ولكن لسوء حظها، أنه بقي فيها فئة ثبتت وصمدت واستطاعت أن تنهض من تحت الركام وتنفض غبار الذل والعار رافضة الهزيمة والاحتلال، متمسكة بارض الآباء والأجداد التي وعدها الله لهم رغما عن وعد بلفور المشؤوم .
وتحقق الحلم الصهيوني بالتربع على القمة وإخضاع كل من حول هذه الدولة التي تتمتع بكل الامتيازات، ولكن دون أن تدرك أن الصعود إلى القمة وكل الجهود والعمل الدؤوب وما تخلله من معاناة وآلام بالطريق نحو القمة، يقابله سقوط من القمة، وبالرغم مما يحيط به من أوجاع وحسرة وألم، إلا انه سريع الخطوات، ولا يحتاج إلا لهفوة أو خطأ بالعمل أو سوء تقدير، أو مخاوف من أمر غالبا ما يكون ذاتيا ليس فيه منفعة عامة، ويمسح كل ما نتج من إيجابيات خلال فترة التربع في القمة.
باختصار مقابل كل صعود هناك سقوط، كما المثل الشعبي القائل: "أمام كل طلعة نزلة"، وما تذريه الريح تحصده العواصف، لكن الذكي من يهبط بأقل الخسائر ولا يكون سقوطه مدويا، بحيث لا ينعكس سلباً على من حوله ولا يؤدي إلى التهلكة.
مؤسس علم الاجتماع، العالم المسلم ابن خلدون، كان قد ذكر في مقدمته الشهيرة العديد من أسباب انهيار الدول وسقوطها، ومنها ممارسة الظلم والبطش والغطرسة والبلطجة والعنجهية وحكم الفرد والقمع والاستبداد وتقييد الحريات وتكميم الأفواه والعدوان على الناس وممتلكاتهم وأموالهم، واتفق معه المؤرخ البريطاني ارنولد تونبي، بقوله إن العجز عن الاستجابة للتحديات التي تواجهها من أكبر أسباب انهيار الدول، حيث هنا تقتل روح الدولة وقدراتها الإبداعية.
مقابل ذلك وعلى مدى سنوات وعبر محطات عديدة، استطاع الشعب الفلسطيني من خلال نضاله ضد الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال، عسكريا ودبلوماسيا، أن يفرض نفسه ويصبح رقما لا يمكن القفز عنه، وبالرغم مما واجهه من عواصف شديدة، لكنه صمد وثبت وتحدى.
مسيرة النضال المستمرة منذ عهد الانتداب البريطاني عام 1917 وحتى الآن، توجت بعملية طوفان الاقصى النوعية للمقاومة الفلسطينية، انطلقت في السابع من تشرين أول الماضي ( اكتوبر ) وما زالت مستمرة، في أطول معركة خاضها ذلك الجيش الذي يطلق عليه (لا يقهر) دون أي نتيجة تذكر، ودون الوصول لأي هدف كان ساسة الاحتلال قد حددوه لهذه المعركة، وبالرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب الفلسطيني من دماء أبنائه وممتلكاته ومقدراته، إلا أن المقاومة تلحق يوميا خسائر فادحة في صفوف ذلك الجيش، وكشفت عورته وأظهرت حقيقة ذلك النمر الورقي وعرته أخلاقيا أمام عيون العالم، إلى درجة أن دولة الاحتلال باتت من دولة كانت تتمتع بكل الامتيازات إلى دولة مارقة ومنبوذة.
هذه التغيرات الداخلية والإقليمية والدولية فيما يتعلق بمكانة دولة الكيان، ما هي إلا مؤشر لبداية نهاية هذه الدولة؟ وذلك الحديث الذي يدور في الاروقة الشعبية أكثر منه لدى الأروقة السياسية، لكنه أخذ مناح جدية تبعث الأمل لدى الشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى المقهورة باقتراب الحرية والانعتاق من العبودية.

هناك أبعاد عدة لاقتراب انهيار دولة الاحتلال:
اولا : البعد الداخلي، حيث التفكك الظاهر والآخذ بالامتداد في المجتمع الاسرائيلي، والرافض لكل سياسات الحكومة الاسرائيلية وأركانها اليمينية المتطرفة والتي لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح عامة الإسرائيليين، وتركز في عملها على مصالح حزبية وذاتية، وما أشعل هذه الأزمة الداخلية قضية الأسرى الاسرائيليين المجتجزين لدى المقاومة في غزة، ومماطلة الثالوث اليميني المتطرف الحاكم في تل أبيب في التوصل إلى صفقة تفضي للافراج عنهم ، ناهيك عن عدم استجابة حكومة الاحتلال للدعوات الاقليمية والدولية وتباين الآراء في اركان حكومة الاحتلال ، ما تسبب بأزمة ثقة وفوضى بين أعضاء التحالف الواحد، ووجد نتنياهو نفسه أولا في مواجهة شعبه الذي بات يتهم حكومته بالقذارة، ويتهمه الاسرائيليون بالسعي لانقاذ نفسه من السجن وزوجته وأحبائه، إضافة إلى انه بدأ يفقد السيطرة على مقاليد الأمور، فعلى سبيل المثال سموتريتش يرفض تسليم أموال المقاصة، ويرفض أيضا تحويل أموال لشراء طائرات F35 وأسلحة أخرى، وهو بذلك يخالف قرارات حكومية، وغالنت يقوم بإدخال عمال فلسطينيين بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، وهو يخالف قرار الكبينيت الاقتصادي على حد قول الوزير الاسرائيلي نير بركات، ويقوم أيضا 12 عضو كنيست من الليكود بتحذير نتنياهو من تسليم معبر رفح لأي جهة فلسطينية، وبن غفير هو الآخر يتصرف بوزارة الامن الداخلي كما يراه مناسبا، فهو يسعى لإقالة المفتش العام للشرطة دون الرجوع لأحد. كل ذلك ينذر بمزيد من التفكك والتفتت الداخلي، ولا يكاد يخلو أسبوع إلا وينزل الاسرائيلييون بعشرات الآلاف إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم لسياسات حكومتهم.
ثانيا: البعد الديني، وهو حتمية، بشرنا بها الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء، ولا تكاد سورة من سور القران الكريم تخلو من الحديث عن بني اسرائيل، وهذا البعد اشبع تحليلا وقال فيه الفقهاء وعلماء الدين الكثير الكثير.
ثالثا: البعد السياسي الدولي: دولة الكيان التي زرعت الريح وزرعت الدم ستحصد العواصف والموت، فقد بدأت تغرق في عزلة دولية جراء تعطشها لسفك الدم الفلسطيني واستهدافها شتى مناحي الحياة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، وتتعامل بوحشية أمام ما تواجهه من خسائر غير متوقعة في الميدان، ويحاول ساستها عبر خداع العالم التملص من جرائمهم التي لم تعد تنطلي على أحد، ولأول مرة في تاريخ هذه الدولة تحاكم في محكمة الجنايات الدولية وتتخذ قرارات بحقها، في وقت اعتقد فيه قادة دولة الاحتلال على مر السنين أنهم محصنون، وللمرة الاولى تتسابق الدول الأوروبية إلى إدانة ونبذ ما تقوم به بحق الشعب الفلسطيني، وتتجه، ومنها من قام بالفعل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وترفض أي تغييرات إسرائيلية في أراضي دولة فلسطين المحتلة.
في إطار هذا الواقع، ومؤشرات السقوط السياسي والعسكري والأخلاقي لدولة الاحتلال، هناك ضرورات فلسطينية وعربية للبناء على ما سبق وأخذ زمام المبادرة. الفلسطينيون قيادة وشعبا مطالبون برص الصفوف وشحذ الهمم الداخلية والعربية، والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني فلسطيني يجمع الكل الفلسطيني، بكافة أطيافه وألوانه السياسية والحزبية والاتجاهات الفكرية والنخب والنشطاء، من داخل فلسطين وخارجها، يدعو إلى إعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية وإعادة الاعتبار لها كوطن معنوي للشعب الفلسطيني، وتشكيل قيادة فلسطينية موحدة، يجمع عليها الشعب الفلسطيني، ويؤكد على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة بأشكالها المختلفة، ومضاعفة الجهود الدبلوماسية الموحدة الموقف أمام الرأي العالم العالمي، وصولا إلى تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها الحق بالاستقلال وإقامة الدولة المنشودة وعاصمتها القدس الشريف.
وعربيا، الأمة العربية ومعها الإسلامية مطالبة بدعم الموقف الفلسطيني الواحد الموحد، ووقف التطبيع مع دولة الاحتلال، والتلويح بالغاء معاهدات السلام والاتفاقيات المختلفة مع اسرائيل، ومساعدة الشعب الفلسطيني ماديا ومعنويا حتى تحقيق أهدافه المشروعة، لأن السلام والامن في المنطقة لن يتحقق في ظل احتلال أطماعه تتجاوز الحدود الفلسطينية إلى ما بين النهرين وأبعد من ذلك .
--------------------------
على مدى سنوات وعبر محطات عديدة، استطاع الشعب الفلسطيني من خلال نضاله، عسكريا ودبلوماسيا، أن يفرض نفسه ويصبح رقما لا يمكن القفز عنه، وبالرغم مما واجهه من عواصف شديدة، لكنه صمد وثبت وتحدى.