جنوب أفريقيا تحقق نصراً أخلاقياً لفلسطين والإنسانية

يناير 17, 2024 - 16:30
جنوب أفريقيا تحقق نصراً أخلاقياً لفلسطين والإنسانية

بغضّ النظر عن نتائج دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية لإثبات أنّ إسرائيل تمارس حرب إبادة ضد جزء من الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فإن مرافعة فريق البلد الذي انتصر على نظام عنصري وحشي حققت نصراً أخلاقيا يدين كل تاريخ دولة الاحتلال. لم تكن إسرائيل تتصوّر أنها ستواجه مثل هذه اللحظة، فاحتقارها القوانين الدولية بلغ ذروته في عدوانها على غزّة، إلى درجة أن مسؤوليها كانوا يتنافسون في إطلاق تصريحات تحرّض على القتل، بل والإبادة. قد لا يكون كثيرون في العالم قد استوعبوا تهديدات المسؤولين الإسرائيليين الإجرامية أو استقرأوها، لكن الفريق القانوني لجنوب أفريقيا وضعها أمام العالم، دليلاً على نيّة مسبقة لارتكاب حرب إبادة في غزّة. وفقاً لنظام محكمة العدل الدولية، يتطلب إثبات أن دولة ترتكب أو أن هناك أدلة على استمرارها في حرب ضد طرف معيّن بغرض الإبادة البشرية إثبات أنّ هناك "نية مسبقة" لذلك. في هذه الحالة، لم يوفر أيّ مسؤول إسرائيلي فرصة للتهديد بالقتل والسحق والتدمير وتقويض إنسانية الفلسطينيين، فمن رئيس إسرائيل، إسحق هيرتسوغ، مروراً برئيس الحكومة نتنياهو وأعضاء حكومته اليمينيّة المتطرّفة في عنصريتها، وكأن جميع الشعوب والحكومات تشارك إسرائيل ازدراءها حياة الفلسطينيين، إذ تتحدّث بلهجة القوّة العسكرية التي لا رادع أو وازع أخلاقياً لها. والمسؤول أولاً أميركا التي تحمي إسرائيل من أي إثباتاتٍ سياسية وقانونية، لكن "مرافعة العصر" جرّدت إسرائيل من كل أقنعتها، وخلعت عنها ثوب الضحية الذي ترتديه تحصيناً لها من عواقب جرائمها.
ليست أهمية مرافعة الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في حجّته القانونية، أو لغة متحدّثيه، بل في وضعِ ما يحدُث في سياق تاريخي وضعَ إسرائيل من أول لحظةٍ في محاكمة تاريخية لتاريخها، فمجرّد إعلان الفريق القانوني أن المسألة لم تبدأ في 7 أكتوبر (صبيحة هجمة كتائب الشهيد عز الدين القسام وفصائل في المقاومة)، بل هناك تاريخ طويل من الاضطهاد للشعب الفلسطيني، قطع الطريق على الحكومة الاسرائيلية بالاستشهاد بحركة "حماس" ذريعة لعملية الإبادة ضد الفلسطينيين. إضافة إلى أن فريق جنوب أفريقيا أوضح، منذ بداية الجلسة، أن القضية هي "اتهام إسرائيل بارتكاب حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزّة"، وأنه لا مكان لأي اتهامات ضد "حماس" في هذه المحكمة، إذ إن "حماس" ليست دولة، وهناك محاكم أخرى متخصّصة يمكن أن تلجأ إليها إسرائيل.


عبّر ردّ إسرائيل وفريقها عن غضب شديد، وشبه صدمة من أنّ هذا يحدُث للدولة الصهيونية، فاتهمت جنوب أفريقيا بأنها جناح لحركة "حماس"، وحاول فريقها التركيز على 7 أكتوبر نقطة البداية، لأن النكبة والاحتلال ونظام الفصل العنصري تفاصيل لا تريد إسرائيل التوقّف عندها، لأنها تتعامل معها حقاً مطلقاً في ممارستها. لذا، ركّز فريق الدفاع الإسرائيلي حديثه عن "جرائم حماس" في 7 أكتوبر، وإعادة كل كذبة ردّدها المسؤولون الإسرائيليون، من اتهام الحركة باستخدام المستشفيات والمدارس مراكز لها، حتى إنهم ردّدوا الادعاء أن صاروخاً انطلق من غزّة كان السبب في مجزرة مستشفى الأهلي المعمداني في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويُنبئ لجوء فريق الدفاع الإسرائيلي إلى ترديد ادّعاءات كاذبة عن ضعفٍ أمام الأدلّة التي قدّمها فريق جنوب أفريقيا في مرافعاته، فمن حيث إثبات النيّة وتقديم الأدلة، لا يستطيع فريق إسرائيل الفوز حتى بالإقناع، فكان لا بد من اللجوء إلى الدعاية وتخويف العالم من حركة "حماس"، ومحاولة ضرب مصداقية الطرف الآخر أمام غربٍ يعتبرها منظمة إرهابية، منحاز لإسرائيل أصلاً. أي إنّ إسرائيل لجأت إلى "الهسبارة" الدعائية التي تتخصّص فيها، وإلى محاكاة الأفكار العنصرية والإسلاموفوبيا في الغرب، وهي أهم أسلحة بيدها، وإن كان محامو جنوب أفريقيا قد قطعوا الطريق عليها بتأكيد أن "لا فعل يبرّر جريمة الإبادة البشرية".


لن يكون صعباً على فريق جنوب أفريقيا الرد بالوقائع والحقائق، فما قالته المحامية الأيرلندية الرائعة إنها أول مرّة في تاريخ الحروب يوثّق المجرم جرائمه بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة، فهي حرب إبادة تُعرض على شاشات العالم التلفزيونية وعبر الفضاء الافتراضي لحظة وقوعها. لكن ما تحاول أن تفعله إسرائيل، كما اتضح من أداء فريقها القانوني، هو التشكيك في صلاحيات محكمة العدل الدولية بفرض وقف إطلاق النار، وهي مسألة تقنيّة تحتاج خبراءَ، وهذا يدلّ على أن إسرائيل ستسعى بكل الوسائل بدعم من الأميركان لئلّا تنجح المرحلة الأولى من المحكمة، وهي إثبات أن استمرار العملية العسكرية الاسرائيلية في غزّة تعني استمرار حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني هناك، ولكنها أيضاً تريد قطع الطريق على مرحلة التحقيق والإدانة، لأن ذلك في نظرها يقوّض شرعية وجودها.


المملكة الأردنية تدعم جنوب أفريقيا، أي إنها تؤمن بأن ما ترتكبه إسرائيل حرب إبادة. لكن ألا يستدعي هذا قطع العلاقات مع إسرائيل؟
قبل وفاته بسنوات، قال رئيس إسرائيل السابق، وأحد أهم قادتها، شيمون بيريس، إن إسرائيل تحتاج اعترافاً عالمياً بشرعية أخلاقية لوجودها ولما تمثله، إذ إن الشرعية القانونية متوافرة بقرار الأمم المتحدة بالاعتراف بتأسيسها، لكن هذه المحاكمة جاءت لتطرح أهم وأخطر تحدٍّ أخلاقي لإسرائيل. ففي الجلسة الأولى للمحكمة، أخضع فريق جنوب أفريقيا إسرائيل لمحاكمة قانونية، أخلاقية، وبدا واضحاً ربطه الخلاق بين القانوني والتاريخي والأخلاقي. ولا يكمن السر في عبقرية الفريق فحسب، بل في عدم خوفهم من مواجهة أميركا والحكومات الغربية، دون ذكرها، فالشجاعة والتزام مبادئ العدالة والحرية قوة لا يمكن هزيمتها بترسانات عسكرية. إذ وضعت هذه الشجاعة المتمكنة بالحجة القانونية والفهم التاريخي للاستعمار والإيمان بالعدالة إسرائيل تحت طائلة المساءلة والمحاسبة أول مرّة في تاريخها، وهذا بحد ذاته إنجاز، بل خرق لحلقة الصمت والظلم العالمي للشعب الفلسطيني.


يجب تدعيم هذا كله برفع دعاوى في المحاكم كافة، وقد بدأ محامون فرنسيون بالقيام بذلك، والمهم ألّا تكون الدعاوى ضد إسرائيل دولةً فقط، بل وأيضاً ضد مسؤوليها فرداً فرداً، وكذلك الإدارة الأميركية. وقد فتح الطريق تآلف 77 مجموعة مدنية أميركية بمقاضاة الرئيس الأميركي جو بايدن لـ"فشله في منع جرائم إبادة جماعية في غزّة"، لذا يجب الاستمرار في المعركة القانونية، لأنها أحد أشكال التضامن والمقاومة. أما الدول العربية، فماذا بقي من حجج لعدم وقف التطبيع؟ المملكة الأردنية مثلاً تدعم جنوب افريقيا، أي إنها تؤمن بأن ما ترتكبه إسرائيل حرب إبادة، ألا يستدعي هذا قطع العلاقات؟ فيما دول عربية أخرى لم تعلن حتى دعمها جنوب أفريقيا، فماذا تنتظر؟ الخوف من واشنطن هو السبب، وهذا تقصير بل تواطؤ، جنوب أفريقيا دولة عملاقة بمكانتها، ولن تستطيع هذه الدول أن تكون مثلها، لكن دعم جنوب أفريقيا ليس بالعمل الجبار، ومقدورٌ عليه.


المهم دور الشعوب، واستمرار عملية المقاطعة ومناهضة التطبيع، فمشاعر معاداة إسرائيل قوية لكنها تفتقر إلى الفعل. والنصر الأخلاقي الذي حققته جنوب أفريقيا لفلسطين في لاهاي لا يكتمل دون مشاركة الشعوب العربية بزخم وفاعلية، في تحدّي إسرائيل من بوابة الشرعية الأخلاقية، والتطبيع والصمت والشلل يزيد جبروت الدولة الصهيونية، فلنكمل المعركة مع جنوب أفريقيا.
"العربي الجديد"