محكمة العدل الدولية وتجويع غزة: بين القانون والضمير الإنساني

أكتوبر 23, 2025 - 09:38
محكمة العدل الدولية وتجويع غزة: بين القانون والضمير الإنساني

في الثاني والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2025 أصدرت محكمة العدل الدولية (ICJ) قرارا تاريخيا في لاهاي يقضي بأن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، ملزمة قانونا بالسماح وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ولا يجوز لها تحت أي ذريعة، بما في ذلك الأمن القومي، أن تحرم السكان المدنيين من الغذاء والماء والدواء والوقود والكهرباء.

القرار، الذي جاء بعد التماس تقدمت به جنوب أفريقيا مدعومة بعدة دول ومنظمات إنسانية، مثّل تتويجا لمسار قانوني بدأ مع تصاعد الأزمة الإنسانية في القطاع، حين تحول الحصار المفروض إلى حالة تجويع ممنهج شملت أكثر من مليوني إنسان.

أكدت المحكمة أن القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، يفرض على القوة المحتلة واجبين أساسيين: واجبا إيجابيا بتأمين الاحتياجات الأساسية للمدنيين، وواجبا سلبيا بعدم عرقلة جهود الإغاثة التي تبذلها الأمم المتحدة ووكالاتها مثل الأونروا (UNRWA).

وقد ردت المحكمة على الادعاءات الإسرائيلية التي زعمت أن الوكالة "متسللة من حماس"، مؤكدة أن إسرائيل لم تقدم أي أدلة مقنعة تثبت تورط موظفيها في أعمال عسكرية، وأن حرمان السكان المدنيين بسبب مزاعم غير مثبتة يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي.

ورغم أن القرار جاء في شكل رأي استشاري غير ملزم، فإن المحكمة شددت على أنه يحمل "وزنا قانونيا وأخلاقيا كبيرا" في تحديد مسؤوليات الدول، مذكرة بأن التجويع كوسيلة حرب يعد جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (المادة 8).

وأوضحت أن تدمير شبكات الإمداد بالماء والكهرباء ومنع دخول الغذاء والدواء لا يمكن تبريره بأي مبرر أمني، لأن القانون الدولي يفرق بين الضرورة العسكرية والعقاب الجماعي.

فالأولى موجهة ضد مقاتلين، بينما الثانية تمارس ضد المدنيين وتشكل انتهاكا إنسانيا صارخا.

أهمية القرار تتجاوز حدوده القانونية لتصل إلى البعد السياسي والأخلاقي.

فالمحكمة ألزمت إسرائيل أيضا بالتعاون مع الأونروا واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والسماح لقوافل الإغاثة بالعبور الآمن إلى غزة دون تأخير.

هذه النقطة اكتسبت بعدا إنسانيا عميقا في ظل تقارير أممية تحدثت عن انعدام الأمن الغذائي بنسبة 96 في المئة من السكان، وعن أطفال يموتون يوميا بسبب الجوع.

وقد صرحت المفوضية السامية لحقوق الإنسان بأن الوضع "يوازي حالات المجاعة الكبرى في القرن العشرين".

القرار أثار ردود فعل متباينة: إسرائيل رفضت اختصاص المحكمة ووصفت الإجراءات بأنها "مسيّسة"، فيما رحبت السلطة الفلسطينية والفصائل بقرار اعتبروه اعترافا قانونيا بمسؤولية الاحتلال عن الجرائم ضد المدنيين.

في المقابل، أبدت واشنطن ترددا في تأييده، مكتفية بالدعوة إلى "زيادة المساعدات عبر قنوات موثوقة"، بينما اعتبر الاتحاد الأوروبي القرار "خطوة مهمة لإعادة التوازن بين الأمن والإنسانية".

وقد استخدمت بعض الدول العربية القرار لتجديد مطلب محاسبة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، خصوصا بعد تقارير مستقلة وثقت استخدام التجويع كسلاح عسكري.

من الناحية القانونية، يشكل القرار سابقة في توسيع مفهوم واجب الدولة المحتلة، إذ لم تكتف المحكمة بالتذكير بالواجبات السلبية (عدم العرقلة)، بل أضافت التزاما إيجابيا نشطا بتسهيل وتنسيق عمليات الإغاثة.

وقد استشهدت المحكمة بسوابق قضائية سابقة، مثل قضيتي البوسنة (1993) وميانمار (2020)، حيث استخدم القضاء الدولي مبدأ حماية المدنيين في النزاعات المسلحة كأساس لتجريم الانتهاكات الهيكلية.

غير أن التحدي الميداني يبقى الأهم: ففتح المعابر وضمان وصول المساعدات يظل مرهونا بإرادة سياسية لا بالقانون وحده.

فإسرائيل، كما أوضحت تقارير، تواصل فرض قيود على الكميات الداخلة من الوقود والمواد الغذائية، بحجة تفادي استخدامها لأغراض عسكرية.

في حين تؤكد الأمم المتحدة أن هذه السياسات تقوض الجهود الإنسانية وتحول المجاعة إلى أداة ضغط سياسي.

على المستوى الإنساني، أبرز القرار الهوة بين القانون والواقع؛ فبينما تنص المواثيق الدولية على قدسية الحياة البشرية، يترك المدنيون في غزة يواجهون الجوع والعطش دون حماية فعلية.

وهو ما دفع قضاة المحكمة إلى توجيه تذكير صريح بأن "الاحتلال لا يبرر نزع الإنسانية"، وأن على الدول كافة التزاما جماعيا باحترام وضمان احترام القانون الإنساني.

في المحصلة، مثّل قرار محكمة العدل الدولية إدانة أخلاقية وقانونية للتجويع كأداة حرب، وإن لم يتضمن آليات تنفيذ قسرية.

لكنه أعاد طرح السؤال الأعمق: هل يمكن للقانون الدولي أن ينتصر على منطق القوة؟ الجواب يظل معلقا بين سطور هذا القرار الذي حوّل غزة من مأساة إنسانية إلى اختبار عالمي لضمير العدالة الدولية، اختبار سيحدد ما إذا كانت المحكمة قادرة على الدفاع عن مبادئها في وجه إرادة الدول الكبرى، أم أن القانون سيظل شاهدا عاجزا أمام مجاعة تدار بقرار سياسي.