بين عدالة القانون وحكم الجمهور
الكاتب: د. ربحي دولة

الكاتب: د. ربحي دولة
حين خرج الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي من منزله في ضواحي باريس متجهًا إلى السجن، لم يكن ذلك المشهد صادمًا في دولة رسخت فيها ثقافة أن لا أحد فوق القانون، وأن المنصب لا يحمي صاحبه من المحاسبة. ساركوزي أُدين بتهم تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ، وخضع لتحقيقات ومحاكمات طويلة، وصدرت بحقه أحكام عن قضاء مستقل، بعيد عن تأثير السياسة أو ضغط الشارع. وبينما وقف بعض أنصاره لتحيته كنوع من الدعم الإنساني، لم نشهد حملة تشكيك في القضاء، ولا تبريرات تحت لافتة “المؤامرة” أو “الاستهداف”.
أما في واقعنا، فقد جرى العكس تمامًا عندما تبدأ الاخبار بتداول أسماء في سياق شبهات فساد لم تُبت قضائيًا حتى حينه . فور تسرب المعلومات، وقبل صدور أي نتائج تحقيق رسمي، تندلع موجة محاكمات جماهيرية على مواقع التواصل الاجتماعي، كان فيها الحكم سريعًا وقاطعًا، لا يراعي براءة المتهم حتى تثبت إدانته، ولا يمنح الفرصة لفحص الأدلة أو احترام الإجراءات القانونية. تنتقلت القصة من “شبهة” إلى “إدانة شعبية”، ومن نقاش عاقل إلى حملات اغتيال معنوي، يتسابق فيها المعلقون في توجيه الاتهامات وتعميم الإدانة لتشمل الأشخاص والمؤسسات وكل من اقترب منهم.
هذه المفارقة تعكس جوهر الفرق بين مجتمعات تُدار بقوة المؤسسات، وأخرى تُحكم بردود الأفعال. في الحالة الأولى، يتم التعامل مع الفساد ضمن إطار قانوني واضح: تحقيقات، شفافية، إعلام مهني، وأحكام تصدر بعد دراسة متأنية. أما في الحالة الثانية، فالفوضى تغلب، والعدالة تتحول إلى رأي عام منقسم، يندفع إما للتبرئة العاطفية أو للإدانة الغاضبة، وكلاهما خارج منطق القانون.
غياب الثقة في القضاء وفي أدوات الرقابة الرسمية هو ما يدفع الناس إلى اللجوء لمحاكم “السوشيال ميديا”. فهم يشعرون – وربما بحق – أن الفاسدين غالبًا لا يُحاسبون، وأن بعض القضايا تطمس أو تُسوّى في الخفاء. لكن حين يتحول الغضب الشعبي إلى بديل للمحاسبة الحقيقية، فإننا لا ننتج عدالة، بل نُعمّق الفوضى، ونفتح الباب لانتهاك الحقوق، ونحوّل القضايا الوطنية الكبرى إلى مادة استهلاك يومي تنتهي مع منشور أو وسم جديد.
نحن بحاجة إلى محاسبة حقيقية، لا تسكت عن فاسد، ولا تسقط بالتقادم أو بالتسويات. لكننا بحاجة أيضًا إلى بناء مؤسسات تحاسب عبر القانون، وتُدين بناءً على الأدلة، وتحترم الإجراءات، وتفصل بين المسؤولية الفردية والاتهامات العامة. لا عدالة بدون قضاء مستقل، ولا إصلاح بدون إعلام حر ومهني، ولا محاربة فساد حقيقية إن كانت تُدار بمنطق الانفعالات.
ليس المطلوب الدفاع عن أحد، ولا تبرئة أحد مسبقًا، بل منح الجميع الحق في محاكمة عادلة، ورفض ثقافة الإعدام المعنوي التي تسود قبل أن يقول القانون كلمته. إذ إننا حين نُجرّم الناس دون محاكمة، ونُدينهم قبل أن يُستدَعوا للتحقيق، فإننا نرتكب خطأ لا يقل خطرًا عن الفساد ذاته.
بين حالة ساركوزي، الذي حُوكم بقوة مؤسسات بلاده، وبين ما يحدث عندنا من محاكمات افتراضية لوزير أو مدير، يتجلى الفرق الجوهري. ليس في الأشخاص، بل في المنظومة. هناك، الدولة تُقيم العدالة، وهنا، الجماهير تُمارسها على طريقتها، فيغيب الحق بين عدالة القانون وعدالة الجماهير.