المغير: نموذج لمستقبل الضفة الغربية بعد حرب غزة
 
                                نبهان خريشة
حين اقتحمت قوات الاحتلال قرية المغير شمال شرق رام الله، وجرّفت مئات الدونمات المزروعة بالزيتون ونهبت أموال الأهالي، بدا الحدث للوهلة الأولى مجرد رد فعل عقابي على هجوم مسلح استهدف أحد المستوطنين. لكن التمعن في تفاصيله يكشف أنه يتجاوز كونه عقوبة جماعية إلى كونه إعلاناً عن سياسة مقبلة قد تعمم على الضفة الغربية بأسرها. فالمغير ليست سوى عينة صغيرة من مختبر سياسي وأمني يراد من خلاله رسم ملامح المرحلة التالية للحرب في غزة.
إن الحرب المدمرة على القطاع أوجدت واقعاً جديداً في الوعي الإسرائيلي، إذ رسخت لدى المجتمع وقواه السياسية أن التعامل مع الفلسطيني يجب أن يكون بمنطق القوة المطلقة، وأن الحسم لا يتم إلا عبر فرض وقائع ميدانية جذرية. وإذا كان الهدف في غزة يتمثل في إحداث دمار شامل وبنية مهشمة يسهل التحكم بها لاحقاً، فإن الهدف في الضفة يختلف من حيث الأدوات لكنه يتقاطع في الجوهر: تفريغ الأرض من مقومات الحياة الفلسطينية، وتسهيل الضم التدريجي لصالح المشروع الاستيطاني.
ما حدث في المغير يجسد هذا التوجه بوضوح. تجريف مئات الدونمات المزروعة بالزيتون يعني ضرب مصدر اقتصادي ورمزي في آن واحد، فالزيتون ليس مجرد محصول، بل هو مرادف لعلاقة الفلسطيني بأرضه. باقتلاع الأشجار، يهيأ المشهد لضم الأراضي إلى نطاق المستوطنات القريبة، أو تحويلها إلى مناطق عسكرية مغلقة، ما يقطع الطريق على إمكانية إعادة استغلالها فلسطينياً. أما نهب الأموال والمدخرات فيقترب من مفهوم "التجويع الممنهج"، إذ يحرم العائلات من وسيلة حماية ذاتية في ظل اقتصاد مأزوم ويضاعف هشاشة المجتمع المحلي. بهذا المعنى، تتكامل عمليتا التجريف والنهب في تشكيل صورة الضفة التي يريدها الاحتلال: أرض خالية من الموارد، وشعب منهك اقتصادياً ونفسياً.
السيناريو الاستشرافي الأكثر ترجيحاً هو أن تتسع هذه السياسة لتشمل مناطق واسعة من الضفة بعد انتهاء الحرب في غزة. فإسرائيل التي ستخرج من الحرب وهي أكثر يمينية وتشدداً، ستحمل معها قناعة أن المجتمع الدولي –الذي عجز عن منع الدمار في غزة– لن يكون أقدر على وقف التوسع الاستيطاني في الضفة. عندها ستُستخدم أحداث أمنية متفرقة أو ذرائع "العقوبات الجماعية" لتبرير حملات تجريف مشابهة في بلدات أخرى، وسيُترك الفلسطينيون أمام معادلة قاسية: إما البقاء في أراضٍ مسلوبة الموارد، أو الهجرة الصامتة بحثاً عن سبل عيش بديلة.
هذا النموذج يتسق مع رؤية حكومة نتنياهو وأحزاب اليمين الديني والقومي التي تطرح منذ سنوات مشروع "السيادة الكاملة" على الضفة الغربية. صحيح أن الضم الرسمي لم يعلن بعد، لكن الضم الفعلي يجري على الأرض من خلال مصادرة المساحات الزراعية، توسيع المستوطنات، وبناء طرق التفافية تفصل القرى عن بعضها. وما جرى في المغير يتكامل مع هذه الرؤية: اقتلاع الزيتون يسبق شق الطرق للمستوطنين، ونهب الأموال يضعف قدرة الأهالي على مواجهة هذه التحولات.
الخطورة أن هذا السيناريو قد ينفذ دون ضجيج كبير، بخلاف ما يجري في غزة حيث التهجير والقتل يتمان على مرأى العالم. في الضفة سيكون التغيير تدريجياً وصامتاً، أقرب إلى "النزيف البطيء" الذي ينهك المجتمع الفلسطيني ويدفعه نحو الانكماش السكاني والاقتصادي. وهذا ما يجعل جريمة المغير ذات دلالة سياسية مضاعفة: فهي ليست حادثة محلية، بل مرآة تعكس استراتيجية طويلة المدى.
السلطة الفلسطينية، المقيدة باتفاقيات أمنية واقتصادية، تبدو عاجزة عن التصدي لهذه السياسات، في وقت يواصل فيه الاحتلال تعميق نفوذه الأمني على الأرض. هذا العجز يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر قتامة، إذ قد تجد القرى الفلسطينية نفسها بلا سند سياسي، في مواجهة مباشرة مع قوة عسكرية واستيطانية هائلة. وفي حال ترافق ذلك مع انكفاء عربي وصمت دولي، فإن فرص وقف النزيف ستكون ضئيلة للغاية.
إن ما جرى في قرية المغيرليس حدثًا معزولًا، بل هو صورة مكررة لما شهدته مخيمات جنين وطولكرم ونورشمس التي تعرضت ولا تزال تتعرض منذ شهور لعمليات تجريف واسعة للبنية التحتية وتدمير للمنازل والطرقات، في مسعى واضح لتحويلها إلى مناطق غير صالحة للحياة ودفعت بسكانها قسرًا نحو الرحيل. وبهذا، يصبح ما يحدث في المغير من تجريف حقول الزيتون ونهب بيوت سكانها وما يحدث في جنين وطولكرم ونور شمس من اجتثاث المخيمات متصلًا في خيط واحد، هدفه المعلن أمن الاحتلال وهدفه الضمني إعادة رسم خريطة الضفة الغربية بعد حرب غزة. فالتجريف والترحيل الجماعي ليسا إلا أدوات سياسية تُراد من ورائها صناعة واقع جديد يُقصي الفلسطينيين من أرضهم ويُعيد إنتاج النكبة بثوب مختلف.
الاستشراف الواقعي يقودنا إلى أن السنوات المقبلة قد تشهد انتقالاً تدريجياً من إدارة الاحتلال غير المباشر عبر السلطة الفلسطينية إلى إدارة مباشرة أكثر صلابة، خاصة في المناطق المصنفة (ج). وسيُبرر ذلك دولياً بحجة "منع الإرهاب" أو "ملء الفراغ الأمني"، بينما الهدف الحقيقي سيكون تسريع مشروع الضم وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين.
لهذا فإن حادثة المغير يجب أن تُقرأ باعتبارها جرس إنذار استراتيجي. هي ليست مجرد مأساة محلية، بل مؤشراً إلى مرحلة جديدة في الضفة الغربية، مرحلة ما بعد غزة، حيث يسعى الاحتلال إلى استثمار مناخ الحرب لتعزيز سيطرته وفرض وقائع يصعب التراجع عنها لاحقاً. وإذا لم يُدرك الفلسطينيون والعرب والمجتمع الدولي هذه الحقيقة مبكراً، فإن المشهد المقبل سيكون أكثر تعقيداً من أن يُعالج ببيانات الشجب أو بمفاوضات شكلية.
المغير تكشف لنا بوضوح أن الضفة بعد حرب غزة ليست مرشحة للتهدئة أو الاستقرار، بل للانفجار الصامت الذي يأكل الأرض والذاكرة والإنسان، في ظل مشروع استيطاني يزحف بلا هوادة، ودولة احتلال تدير صراعها بمنطق "الفرصة التاريخية". وفي غياب رد حاسم، قد نجد أنفسنا بعد سنوات أمام واقع جديد يُختصر في جملة واحدة: الضفة الغربية كما عرفناها لم تعد موجودة.                        
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 




 
                                                                                                                                             
                                                                                                                                             
                                                                                                                                             
                                             
                                             
                                             
                                             
                                             
                                             
                                             
                                             
                                            