رسالة أعضاء الكونغرس.. تعبير عن قلق إنساني أم تحول سياسي؟

يوليو 31, 2025 - 13:56
رسالة أعضاء الكونغرس.. تعبير عن قلق إنساني أم تحول سياسي؟

نبهان خريشة

في سياق الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، والتي دخلت شهرها الثاني والعشرين بلا أفق واضح للانتهاء، تتوالى الإشارات على أن الزلزال السياسي الذي أحدثته هذه الحرب لا يقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل يمتد ليهز قناعات راسخة داخل المؤسسات الغربية، وفي طليعتها الكونغرس الأميركي. رسالة وقّعها 40 عضوًا من الكونغرس الأميركي، بينهم بعض من أنصار إسرائيل التقليديين، لم تكن مجرد تعبيرعن قلق إنساني، بل تشكل تحولًا سياسيًا عميقًا يشي بتآكل الهالة التي لطالما أحاطت بدولة الاحتلال في دوائر القرار الأميركي، وبتسرب شعور خفي إلى هذه الدوائر بأن "إسرائيل" لم تعد ذخرًا استراتيجيًا دائمًا، بل عبئًا متزايد الكلفة السياسية والأخلاقية.

الرسالة الموجهة إلى وزير الخارجية ماركو روبيو والمبعوث للشرق الأوسط بن ويتكوف، جاءت محمّلة بلغة غير معتادة في الخطاب الأميركي الرسمي تجاه إسرائيل. فعندما يقول أعضاء في الكونغرس إن "الأزمة الإنسانية الحادة في غزة غير مستدامة وتتفاقم يومًا بعد يوم، وإن الجوع وسوء التغذية منتشران على نطاق واسع، والوفيات الناجمة عن الجوع، وخاصة بين الأطفال، آخذة في الازدياد"، فهم لا يتحدثون عن كوارث طبيعية أو أزمات من فعل الطبيعة، بل يصفون آثارًا مباشرة لحصار وتجويع متعمدين تمارسهما دولة حليفة، بتواطؤ أو صمت رسمي أميركي.

هذا الوصف الدقيق للجوع المنتشر والوفيات بين الأطفال لا يمكن فصله عن الصور التي اجتاحت وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، لأطفال فلسطينيين نحلت أجسادهم حتى كادت تتحول إلى هياكل عظمية. هذا التوصيف يقرّ، ضمنًا، بأن هذه الحرب قد فقدت مبرراتها الأخلاقية في أعين حتى بعض المؤيدين التقليديين لإسرائيل، وأن استمرار التغطية السياسية الأميركية عليها، لم يعد مجديًا لا انتخابيًا ولا إنسانيًا.

الرسالة لا تكتفي بوصف المأساة، بل تفتح الباب لقراءة مختلفة للصراع برمته. فعندما يؤكد الموقعون أن "هناك مسارًا قابلًا للتطبيق لإنهاء هذه الحرب، وإعادة الرهائن الإسرائيليين، والتوصل إلى حل دبلوماسي"، فإنهم لا يتحدثون فقط عن تهدئة مؤقتة، بل يعيدون إحياء فكرة الحل السياسي، بل ويدفعون بها إلى واجهة النقاش، بعد أن طغت أصوات الحرب والحسم العسكري على كل شيء. اللافت هنا أن الدعوة لا تأتي من نشطاء حقوقيين أو منظمات أممية، بل من نواب داخل المؤسسة الأميركية ذاتها، ما يؤشر على تحوّل في الإدراك: أن الحرب ليست فقط غير أخلاقية، بل غير منتجة من منظور استراتيجي.

ولا يمكن قراءة هذه الرسالة بمعزل عن الحراك الشعبي العابر للحدود، الذي شهدته الولايات المتحدة وعواصم العالم خلال الأشهر الماضية. فقد خرجت مئات التظاهرات في نيويورك وواشنطن وشيكاغو ومدن جامعية كبرى، تندد بسياسات التجويع والقصف الإسرائيلي وتطالب بوقف الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل، وسط تصاعد لحملات العصيان المدني والاعتصامات المفتوحة في الجامعات والمؤسسات العامة. هذه الموجات المتكررة من الاحتجاج، التي يقودها تحالف واسع من الناشطين الحقوقيين والطلاب والأقليات، بدأت تترك أثرًا مباشرًا على المزاج السياسي داخل الكونغرس، وعلى حسابات بعض النواب الذين يدركون أن تجاهل هذه الأصوات لم يعد خيارًا آمنًا في موسم انتخابي حساس.

الأثر نفسه بدأ يتجلى في برلمانات أوروبا الغربية، حيث تشهد الحكومات ضغوطًا شعبية وإعلامية متزايدة للانفكاك من سياسة المحاباه لإسرائيل، والتحرك الجدي لوقف المجازر بحق المدنيين في غزة. وفي حالات كثيرة، لم يعد الاعتراف بدولة فلسطين يُطرح فقط كموقف تضامني مع الشعب الفلسطيني، بل كأداة ضغط سياسية ضرورية لكبح الغطرسة الإسرائيلية، كما في حالة بريطانيا التي بدأ فيها خطاب الاعتراف بفلسطين كدولة يُتداول داخل البرلمان ليس من منطلق الحل النهائي، بل كرسالة تحذير لإسرائيل بأن العالم لم يعد مستعدًا لمواصلة التغطية على جرائمها تحت ذريعة الأمن.

التحولات الجارية ليست معزولة، بل هي حصيلة تراكمات. فمنذ هجوم في 7 أكتوبر، حاولت إسرائيل تصوير الحرب على غزة كمعركة وجودية ضد "الإرهاب الإسلامي"، ونجحت في البداية في استدرار تعاطف غربي واسع. لكن مع طول أمد الحرب، واتساع نطاق الدمار، وتكاثر الشهادات حول استهداف المدنيين، بدأت السردية تنهار. لم يعد أحد في الغرب يستطيع أن يتحدث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" دون أن يُواجَه بصور أطفال غزة الجائعين، أو بتقارير الأمم المتحدة حول المجاعة والانهيار الصحي، أو بالتصريحات الدولية المتزايدة حول احتمال ارتكاب جرائم إبادة جماعية.

وإذا ما ربطنا هذا التحول مع ما قاله جلعاد إردان، السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، فإن الصورة تبدو أكثر وضوحًا. إردان، المعروف بتشدده، أقرّ بمرارة في حديث لإذاعة جيش الاحتلال بأنه لم يعد قادرًا على شرح "ما هي النهاية"، وأن "لا يوجد هنا وضوح كافٍ". في دولة تعيش على وهم الردع والسيطرة، هذا التصريح هو بحد ذاته اعتراف بالفشل الاستراتيجي. لا يعرف الساسة الإسرائيليون ما الذي يريدونه بالضبط من غزة بعد ما يقارب العامين من القصف والدمار، بعد آلاف الشهداء، وتفكيك المجتمع المدني، وتدمير البنى التحتية، وتشريد السكان، لا تزال النهاية غامضة.

والأخطر من ذلك، قوله: "بدأنا نفقد حتى الجمهوريين". وهو تصريح ينبغي التوقف عنده مطولًا. فمن المعروف أن الحزب الجمهوري كان، تاريخيًا، من أشد الداعمين لإسرائيل، لا لأسباب أخلاقية فقط بل أيديولوجية ودينية وتحالفية. أن يقول إردان إن هذا الدعم بدأ يتآكل، فهذا يعكس إدراكًا متأخرًا في إسرائيل أن معركة الوعي، أي القدرة على الاستمرار في تبرير هذه الحرب أمام الرأي العام الأميركي، قد بدأت تميل لغير صالحها، رغم كل جهود الدعاية واللوبيات.

من هنا، فإن الرسالة الصادرة عن أعضاء الكونغرس، مهما كانت محدودة في عدد الموقعين، تعكس ما هو أبعد من مجرد موقف إنساني. إنها بداية تشقق في جدار التأييد التقليدي لإسرائيل داخل واشنطن، خاصة إذا ما تزامن ذلك مع تصاعد حملات المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وارتفاع أصوات الجاليات العربية والمسلمة والأميركيين التقدميين الذين باتوا يرون في دعم إسرائيل وصمة عار على جبين بلادهم.

وليس من المبالغة القول إن هذه الرسالة قد تكون إحدى نتائج المعركة الأهم التي تُخاض حاليًا: معركة الوعي والرأي العام. فبينما تواصل إسرائيل حربها بالطائرات والدبابات، فإن الفلسطينيين ومعهم متضامنون كثر، يخوضون معركة سردية، يستثمرون فيها كل صورة وكل شهادة وكل صوت، في محاولة لإعادة تعريف ما يحدث في غزة، ليس كصراع بين "إرهاب ودولة"، بل كحرب استعمارية تسعى إلى كسر شعب بأكمله.

من المؤكد أن هذه الرسالة وحدها لن توقف الحرب، ولن تدفع إدارة ترامب لتغيير سياستها بشكل جذري. لكن أهميتها تكمن في رمزيتها، وفي توقيتها. فهي تصدر في لحظة تفقد فيها إسرائيل تماسكها الداخلي، ويعجز قادتها عن تحديد هدف واضح للحرب، وتتكشف فيها هشاشة الدعم الخارجي، حتى من أخلص الحلفاء. إنها مؤشر على بداية مرحلة جديدة قد تشهد فيها إسرائيل عزلة متزايدة، ويجد فيها أنصار الحل السياسي فرصة لإعادة فرض رؤيتهم على الطاولة.

بكلمات أخرى، إن الرسالة التي تبدو في ظاهرها إنسانية، تنطوي على أبعاد سياسية واستراتيجية عميقة. فهي لا تندد بالحرب فقط، بل تشكك في جدواها، وتلمّح إلى ضرورة التفكير بمخرج سياسي شامل، يعيد الاعتبار لفكرة "حل الدولتين"، لا كخيار مثالي، بل كضرورة للجم الانهيار الأخلاقي والسياسي في الشرق الأوسط. وهي أيضًا صرخة تحذير من أن الاستمرار في دعم هذه الحرب قد يؤدي إلى انفجار أكبر، يتجاوز حدود غزة، ليهدد ما تبقى من استقرار إقليمي، ويضعف مصداقية الغرب في أعين الشعوب، بل ويهدد وحدة المعسكر الداعم لإسرائيل من الداخل.

في النهاية، قد لا تُغيّر هذه الرسالة موازين القوى على الأرض، لكنها بالتأكيد تغيّر موازين الخطاب. وهذا، في حرب طويلة ومعقدة مثل حرب غزة، ليس أمرًا هامشيًا على الإطلاق