تحالف الإقصاء: حين يتصافح المتطرفون باسم التعايش

يوليو 1, 2025 - 09:13
تحالف الإقصاء: حين يتصافح المتطرفون باسم التعايش

توفيق العيسى

لا يدهشك في هذا الزمن أن ترى من ينادي بتكفير الآخرين، يجلس بعدها ‏في مؤتمر دولي تتصدره أعلام اتفاقات إبراهيميّة. ولا يُدهشك أن تستمع ‏إلى خطابات تُكفّر المختلف، ثم تقرأ لاحقا عن توجه أصحابها إلى التحالف ‏مع "الآخر" نفسه باسم الدين المشترك، في هذا المشهد الهجين، تبدو ‏الشعارات الدينية وكأنها بطاقات صعود إلى قطار النفوذ، لا أكثر، حتى ‏وإن كان ذلك القطار متجهًا إلى نفي القضايا التي بُنيت عليها تلك ‏الشعارات.‏

الجماعات الإسلامية التي صعدت في أكثر من بلد تحت لافتات دينية، لم ‏تُخفِ يومًا نظرتها الإقصائية إلى المخالفين، سواء كانوا من أبناء الطوائف ‏الأخرى أو حتى من داخل الدين نفسه، يتكرر المشهد ذاته، استحواذ على ‏السلطة، تطويع للدين، قمع لكل صوت يخرج عن "النص"، وتوسّع في ‏هندسة مجتمع أحادي اللون والعقيدة.‏

 في سوريا، كان المثال أكثر وضوحًا، حين ظهرت فصائل مسلحة ذات ‏خلفيات جهادية، أُعيد تسويق بعضها على أنه أكثر اعتدالًا. أطلقوا عليها ‏في بعض الدوائر الغربية اسم "الحمائم الجدد"، لكن الداخل السوري لم ‏يعرف من حمامهم هذا إلا ظلًّا قاتمًا من الحظر، والمنع، والملاحقة، ‏والتكفير‎.‎

وإذا أردنا أن نُحسن النية، نقول إن بعضهم فقط من مارس هذه الانتهاكات. ‏لكن الواقع أن هذا "البعض" هو من تصدّر المشهد، وحجز لنفسه مكانا ‏على طاولات التفاوض، وفتح خطوط تنسيق مع قوى إقليمية ودولية، ‏بعضها يسعى صراحة لتأسيس نظام جديد في الشرق الأوسط تحت مظلة ‏ما يُسمى بالاتفاقات الإبراهيمية‎.‎

المفارقة العجيبة، أن هذه الجماعات التي لا تقبل بالمسيحي جاراً، ولا ‏بالعلوي شريكاً، ولا بالعلماني رأياً، ولا بالشيعي مسلماً، لا ترى غضاضة ‏في المشاركة  في تحالف يُفترض أنه يضم أتباع "الديانات الإبراهيمية ‏الثلاث"، بل تراها تنسج رواية دينية موازية تبرر فيها هذا الانخراط، إما ‏باسم "مصلحة الأمة"، أو باعتباره "تكتيكًا مرحليًا"، أو بقراءته كجزء من ‏فتح سياسي جديد، وليس أصحاب الديانات فقط، بل إن روايتهم بالنسبة ‏للغرب عموما تقوم على نظرة تكفيرية وتشكيكية، فكل ما يؤخذ من ‏الغرب عدا السلع الاستهلاكية والأسلحة حرام بشرعهم، وتراهم يتهافتون ‏للمفاوضات والاتفاق معها.‏

في قلب هذا السياق، ظهرت مؤخرًا تحليلات تتحدث عن انخراط "الحكام ‏الجدد" في سوريا، أو على الأقل بعض الفصائل المؤثرة، في الترتيبات ‏السياسية التي تقودها الاتفاقات الإبراهيمية. تصريحات ترامب وبعض ‏معاونيه فتحت الباب لهذا التخمين، مشيرة إلى إمكانية إدماج قوى إسلامية ‏‏"معتدلة" في مشروع إقليمي جديد، يعيد رسم ملامح التحالفات في ‏المنطقة. ورغم أن هذه الرؤية لا تزال في نطاق التحليل، ولم تُؤكد بشكل ‏رسمي، إلا أنها تُشير إلى مسار مقلق قد يتحقق، خاصة إذا ما أخذنا بعين ‏الاعتبار الخلفية الإقصائية لتلك الجماعات، وسلوكها في الداخل، ثم تخليها ‏عن تلك الحدة حين يتعلق الأمر بتحالفات استراتيجية قد تمر عبر تل أبيب ‏نفسها‎.‎

الاتفاقات الإبراهيمية، من حيث المظهر، تُسوّق كجسر بين شعوب ‏وديانات، لكنها من حيث الجوهر، تُعيد ترتيب المصالح والمواقف في ‏المنطقة. لم تأتِ منفصلة عن صفقة القرن، ولا عن محاولات تصفية ‏الرواية الفلسطينية، بل جاءت لتُعيد تأهيل الاحتلال سياسيًا، لا ليعترف ‏العرب به، بل ليُشاركونه صلات "سلام" مصطنع، يتجاوز الجريمة ‏الأصلية: نفي شعب بأكمله‎.‎

هنا يتقاطع تطرفان، تطرف ديني يهودي، يُمارس من خلال آلة الدولة ‏الإسرائيلية، التي تستند إلى سردية مختارة دينية لتبرير الاحتلال، وتُقصي ‏كل ما هو غير يهودي من أرض فلسطين، وتعلن في قانونها الأساسي ‏أنها دولة لليهود فقط.‏

وتطرف ديني إسلاموي، يرى في مذهبه الحق المطلق، وفي مخالفيه رِدة، ‏وفي التعددية ضعفا، ثم لا يجد حرجا في أن يصافح الأول على طاولة ‏واحدة، تحت اسم التعايش والتسامح‎.‎

ليست هذه أول مرة يلتقي فيها التطرفان. التاريخ يُسجل تحالفات متطرفة ‏اتكأت على الدين شكليًا لتُحقق أهدافًا سياسية. ‏

من أمثلة ذلك تعاون بعض الحركات الوهابية مع القوى الاستعمارية، أو ‏توظيف الإسلام الجهادي في الحرب الباردة كأداة لمحاربة الشيوعية، ثم ‏التخلص منه لاحقًا. وقبلها محاربة مشروع عبدالناصر بنفس الأدوات.‏

 اليوم، يعود المشهد نفسه، لكن بحلة "إبراهيمية"، أكثر نعومةً، وأشد فتكاً‎.‎

إذا كانت الاتفاقات الإبراهيمية تُسوّق كصيغة إنسانية توحّد أتباع الديانات، ‏فلماذا تتكالب عليها دولة تُمارس الإقصاء باسم يهودية الدولة، وجماعات ‏تُقصي الآخر باسم الدين؟ كيف يمكن لمن يرى نفسه مختارا أو مخلصا أو ‏حارسا للحق الإلهي، أن يصوغ سلاما يُفترض فيه قبول الآخر؟

أم أن هذا "السلام" ليس إلا مشهدا جديدًا من التواطؤ، تُغلفه لغة دينية، ‏بينما مضمونه إعادة توزيع السيطرة والنفوذ؟

القضية الفلسطينية، في قلب كل هذا، ليست مجرد عنوان، بل اختبار‎.‎

فإن كانت هذه الاتفاقات حقا دعوة إلى التعايش، فلتبدأ من هنا،  من ‏الاعتراف بالظلم، وإنهاء الاحتلال وإعادة الحقوق‎.‎

أما أن تنتزع فلسطين من تاريخها، ويُعاد تشكيل الرواية لتلائم احتفالات ‏التطبيع، فذلك ليس سلاما، بل مكر سياسي بغطاء ديني‎.‎