تحالف الإقصاء: حين يتصافح المتطرفون باسم التعايش

توفيق العيسى
لا يدهشك في هذا الزمن أن ترى من ينادي بتكفير الآخرين، يجلس بعدها في مؤتمر دولي تتصدره أعلام اتفاقات إبراهيميّة. ولا يُدهشك أن تستمع إلى خطابات تُكفّر المختلف، ثم تقرأ لاحقا عن توجه أصحابها إلى التحالف مع "الآخر" نفسه باسم الدين المشترك، في هذا المشهد الهجين، تبدو الشعارات الدينية وكأنها بطاقات صعود إلى قطار النفوذ، لا أكثر، حتى وإن كان ذلك القطار متجهًا إلى نفي القضايا التي بُنيت عليها تلك الشعارات.
الجماعات الإسلامية التي صعدت في أكثر من بلد تحت لافتات دينية، لم تُخفِ يومًا نظرتها الإقصائية إلى المخالفين، سواء كانوا من أبناء الطوائف الأخرى أو حتى من داخل الدين نفسه، يتكرر المشهد ذاته، استحواذ على السلطة، تطويع للدين، قمع لكل صوت يخرج عن "النص"، وتوسّع في هندسة مجتمع أحادي اللون والعقيدة.
في سوريا، كان المثال أكثر وضوحًا، حين ظهرت فصائل مسلحة ذات خلفيات جهادية، أُعيد تسويق بعضها على أنه أكثر اعتدالًا. أطلقوا عليها في بعض الدوائر الغربية اسم "الحمائم الجدد"، لكن الداخل السوري لم يعرف من حمامهم هذا إلا ظلًّا قاتمًا من الحظر، والمنع، والملاحقة، والتكفير.
وإذا أردنا أن نُحسن النية، نقول إن بعضهم فقط من مارس هذه الانتهاكات. لكن الواقع أن هذا "البعض" هو من تصدّر المشهد، وحجز لنفسه مكانا على طاولات التفاوض، وفتح خطوط تنسيق مع قوى إقليمية ودولية، بعضها يسعى صراحة لتأسيس نظام جديد في الشرق الأوسط تحت مظلة ما يُسمى بالاتفاقات الإبراهيمية.
المفارقة العجيبة، أن هذه الجماعات التي لا تقبل بالمسيحي جاراً، ولا بالعلوي شريكاً، ولا بالعلماني رأياً، ولا بالشيعي مسلماً، لا ترى غضاضة في المشاركة في تحالف يُفترض أنه يضم أتباع "الديانات الإبراهيمية الثلاث"، بل تراها تنسج رواية دينية موازية تبرر فيها هذا الانخراط، إما باسم "مصلحة الأمة"، أو باعتباره "تكتيكًا مرحليًا"، أو بقراءته كجزء من فتح سياسي جديد، وليس أصحاب الديانات فقط، بل إن روايتهم بالنسبة للغرب عموما تقوم على نظرة تكفيرية وتشكيكية، فكل ما يؤخذ من الغرب عدا السلع الاستهلاكية والأسلحة حرام بشرعهم، وتراهم يتهافتون للمفاوضات والاتفاق معها.
في قلب هذا السياق، ظهرت مؤخرًا تحليلات تتحدث عن انخراط "الحكام الجدد" في سوريا، أو على الأقل بعض الفصائل المؤثرة، في الترتيبات السياسية التي تقودها الاتفاقات الإبراهيمية. تصريحات ترامب وبعض معاونيه فتحت الباب لهذا التخمين، مشيرة إلى إمكانية إدماج قوى إسلامية "معتدلة" في مشروع إقليمي جديد، يعيد رسم ملامح التحالفات في المنطقة. ورغم أن هذه الرؤية لا تزال في نطاق التحليل، ولم تُؤكد بشكل رسمي، إلا أنها تُشير إلى مسار مقلق قد يتحقق، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الخلفية الإقصائية لتلك الجماعات، وسلوكها في الداخل، ثم تخليها عن تلك الحدة حين يتعلق الأمر بتحالفات استراتيجية قد تمر عبر تل أبيب نفسها.
الاتفاقات الإبراهيمية، من حيث المظهر، تُسوّق كجسر بين شعوب وديانات، لكنها من حيث الجوهر، تُعيد ترتيب المصالح والمواقف في المنطقة. لم تأتِ منفصلة عن صفقة القرن، ولا عن محاولات تصفية الرواية الفلسطينية، بل جاءت لتُعيد تأهيل الاحتلال سياسيًا، لا ليعترف العرب به، بل ليُشاركونه صلات "سلام" مصطنع، يتجاوز الجريمة الأصلية: نفي شعب بأكمله.
هنا يتقاطع تطرفان، تطرف ديني يهودي، يُمارس من خلال آلة الدولة الإسرائيلية، التي تستند إلى سردية مختارة دينية لتبرير الاحتلال، وتُقصي كل ما هو غير يهودي من أرض فلسطين، وتعلن في قانونها الأساسي أنها دولة لليهود فقط.
وتطرف ديني إسلاموي، يرى في مذهبه الحق المطلق، وفي مخالفيه رِدة، وفي التعددية ضعفا، ثم لا يجد حرجا في أن يصافح الأول على طاولة واحدة، تحت اسم التعايش والتسامح.
ليست هذه أول مرة يلتقي فيها التطرفان. التاريخ يُسجل تحالفات متطرفة اتكأت على الدين شكليًا لتُحقق أهدافًا سياسية.
من أمثلة ذلك تعاون بعض الحركات الوهابية مع القوى الاستعمارية، أو توظيف الإسلام الجهادي في الحرب الباردة كأداة لمحاربة الشيوعية، ثم التخلص منه لاحقًا. وقبلها محاربة مشروع عبدالناصر بنفس الأدوات.
اليوم، يعود المشهد نفسه، لكن بحلة "إبراهيمية"، أكثر نعومةً، وأشد فتكاً.
إذا كانت الاتفاقات الإبراهيمية تُسوّق كصيغة إنسانية توحّد أتباع الديانات، فلماذا تتكالب عليها دولة تُمارس الإقصاء باسم يهودية الدولة، وجماعات تُقصي الآخر باسم الدين؟ كيف يمكن لمن يرى نفسه مختارا أو مخلصا أو حارسا للحق الإلهي، أن يصوغ سلاما يُفترض فيه قبول الآخر؟
أم أن هذا "السلام" ليس إلا مشهدا جديدًا من التواطؤ، تُغلفه لغة دينية، بينما مضمونه إعادة توزيع السيطرة والنفوذ؟
القضية الفلسطينية، في قلب كل هذا، ليست مجرد عنوان، بل اختبار.
فإن كانت هذه الاتفاقات حقا دعوة إلى التعايش، فلتبدأ من هنا، من الاعتراف بالظلم، وإنهاء الاحتلال وإعادة الحقوق.
أما أن تنتزع فلسطين من تاريخها، ويُعاد تشكيل الرواية لتلائم احتفالات التطبيع، فذلك ليس سلاما، بل مكر سياسي بغطاء ديني.